ان الانسان لما كان محتاجا في إدامة حياته وامرار معاشه إلى تفهيم مقاصده والقائها إلى أبناء نوعه ليتعاونوا ويتوازروا، وكانت الألفاظ أقرب الوسائل إلى ذلك وأعمها نفعا من جهة ان التنفس كان امرا ضروريا قهريا لجميع البشر، وكان الهواء عند خروجه من الرية واصابته المقاطع، مما يمكن ان يوجد بوسيلته أصوات موزونة يخالف بعضها بعضا، بحيث يتولد منه الحروف أولا، ويتولد منها الكلمات بسبب التركيب ثانيا، فلأجل ذلك اختار البشر هذا الامر الطبيعي وجعله وسيلة لافهام مقاصده بالوضع والمواضعة، وحيث إن الوضع كان لرفع الاحتياجات، وكانت الحوائج مختلفة والمقاصد متفاوتة، فلا محالة لاحظ الواضع حين وضعه أنواعه المقاصد وأصناف المفاهيم والانحاء المتصورة لالقائها وافهامها، ثم وضع الألفاظ بمقدار ينسد به جميع طرق الحاجة.
(وبالجملة) فالواضع حين الوضع لاحظ أنواع احتياجات المتكلمين، فرأى انهم ربما يحتاجون إلى القاء المفاهيم المستقلة المتشتتة في حد ذاتها، وربما يحتاجون إلى القاء المعاني الربطية الاندكاكية، وانهم قد يقصدون اعلام المعنى وافهامه بوسيلة اللفظ، وقد يقصدون ايجاده بوسيلته، وفي اعلام المعاني الربطية ربما يكون داعيهم إلى اعلامها تصور المخاطب إياها، وقد يكون داعيهم تصديقه بوقوعها، فوسع دائرة وضعه بمقدار يفي بتلك الحوائج.
(وزبدة أقسام اللفظ) بحسب أنواع المعاني وانحاء الاستعمالات المتصورة خمسة أقسام (بيان ذلك) ان استعمال المتكلم للفظ وطلبه عمل اللفظ في المعنى، (تارة) يكون بنحو الاعلام والافهام وهذا انما يكون فيما إذا فرض للمعنى مع قطع النظر عن هذا الاستعمال الخاص نفس آمرية ما فأريد باستعمال اللفظ فيه افهام المخاطب إياه حتى يتصوره أو يصدق بوقوعه (وتارة) يكون بنحو الايجاد بحيث يكون صدور اللفظ عن اللافظ آلة لايجاده و هذا انما يتصور فيما إذا كان المعنى من الأمور الاعتبارية التي امر ايجادها بيد المتكلم.
(اما القسم الأول) أعني المعنى الذي كان عمل اللفظ فيه عملا افهاميا فهو على نوعين إذ المعنى الافهامي اما أن يكون من المفاهيم المستقلة، واما أن يكون من المفاهيم الربطية الاندكاكية.
(أما النوع الأول) فكمفهوم الرجل والضرب ونحوهما من المفاهيم المستقلة الغير