بيان مدة الحكم والتلاوة، والنسخ قد يكون في التلاوة مع بقاء الحكم ويكون في الحكم مع بقاء التلاوة دون غيره.
قال أبو بكر: زعم بعض المتأخرين من غير أهل الفقه أنه لا نسخ في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن جميع ما ذكر فيها من النسخ فإنما المراد به نسخ شرائع الأنبياء المتقدمين كالسبت والصلاة إلى المشرق والمغرب، قال: لأن نبينا عليه السلام آخر الأنبياء وشريعته ثابتة باقية إلى أن تقوم الساعة. وقد كان هذا الرجل ذا حظ من البلاغة وكثير من علم اللغة، غير محظوظ من علم الفقه وأصوله، وكان سليم الاعتقاد غير مظنون به غير ظاهر أمره، ولكنه بعد من التوفيق بإظهار هذه المقالة إذ لم يسبقه إليها أحد، بل قد عقلت الأمة سلفها وخلفها من دين الله وشريعته نسخ كثير من شرائعه ونقل ذلك إلينا نقلا لا يرتابون به ولا يجيزون فيه التأويل كما قد عقلت أن في القرآن عاما وخاصا ومحكما ومتشابها، فكان دافع وجود النسخ في القرآن والسنة كدافع خاصه وعامه ومحكمه ومتشابهه، إذ كان ورود الجميع ونقله على وجه واحد. فارتكب هذا الرجل في الآي المنسوخة والناسخة وفي أحكامها أمورا خرج بها عن أقاويل الأمة مع تعسف المعاني واستكراهها. وما أدري ما الذي ألجأه إلى ذلك، وأكثر ظني فيه أنه إنما أتى به من قلة علمه بنقل الناقلين لذلك واستعمال رأيه فيه من غير معرفة منه بما قد قال السلف فيه ونقلته الأمة. وكان ممن روى فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ) والله يغفر لنا وله! وقد تكلمنا في أصول الفقه في وجوه النسخ وما يجوز فيه وما لا يجوز بما يغني ويكفي.
وأما: (أو ننسها) قيل إنه من النسيان، و (ننسأها) من التأخير، يقال: نسأت الشئ أخرته، والنسيئة: الدين المتأخر، ومنه قوله تعالى: (إنما النسئ زيادة في الكفر) [التوبة: 37] يعني تأخير الشهور، فإذا أريد به النسيان، فإنما هو أن ينسيهم الله تعالى التلاوة حتى لا يقرؤوا ذلك، ويكون على أحد وجهين: إما أن يؤمروا بترك تلاوته فينسوه على الأيام، وجائز أن ينسوه دفعة ويرفع من أوهامهم ويكون ذلك معجزة للنبي عليه السلام. وأما معنى قراءة (أو ننسأها) فإنما هو بأن يؤخرها فلا ينزلها وينزل بدلا منها ما يقوم مقامها في المصلحة أو يكون أصلح للعباد منها، ويحتمل أن يؤخر إنزالها إلى وقت يأتي فيأتي بدلا منها لو أنزلها في الوقت المتقدم فيقوم مقامها في المصلحة.
وأما قوله: (نأت بخير منها أو مثلها) فإنه روي عن ابن عباس وقتادة: (بخير منها لكم في التسهيل والتيسير) كالأمر بأن لا يولي واحد من عشرة في القتال ثم قال: (الآن خفف الله عنكم) [الأنفال: 66] أو مثلها كالأمر بالتوجه إلى الكعبة بعد ما كان إلى البيت