خير من صدقة يتبعها أذى وامتنان، وهو نظير قوله تعالى: (وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا) [الإسراء: 28] والله تعالى الموفق.
باب المكاسبة قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض). فيه إباحة المكاسب وأخبار أن فيها طيبا. والمكاسب وجهان: أحدهما إبدال الأموال وإرباحها، والثاني: إبدال المنافع، وقد نص الله تعالى على إباحتها في مواضع من كتابه، نحو قوله تعالى: (وأحل الله البيع) وقوله تعالى: (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله) [المزمل: 20] وقال تعالى: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) [البقرة: 198] يعني، والله أعلم من يتجر ويكري ويحتج مع ذلك. وقال تعالى في إبدال المنافع: (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) [الطلاق: 6] وقال شعيب عليه السلام: (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج) [القصص: 27] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من استأجر أجيرا فليعلمه أجره) وقال صلى الله عليه وسلم: (لأن يأخذ أحدكم حبلا فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه). وقد روى الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه). وقد روي عن جماعة من السلف في قوله تعالى: (أنفقوا من طيبات ما كسبتم) أنه من التجارات، منهم الحسن ومجاهد.
وعموم هذه الآية يوجب الصدقة في سائر الأموال، لأن قوله تعالى: (ما كسبتم) ينتظمها، وإن كان غير مكتف بنفسه في المقدار الواجب فيها، فهو عموم في أصناف الأموال مجمل في المقدار الواجب فيها، فهو مفتقر إلى البيان، ولما ورد البيان من النبي صلى الله عليه وسلم بذكر مقادير الواجبات فيها صح الاحتجاج بعمومها في كل مال اختلفنا في إيجاب الحق فيه، نحو أموال التجارة.
ويحتج بظاهر الآية على من ينفي إيجاب الزكاة في العروض، ويحتج به أيضا في إيجاب صدقة الخيل وفي كل ما اختلف فيه من الأموال، وذلك لأن قوله تعالى:
(أنفقوا) المراد به الصدقة، والدليل عليه قوله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) يعني: تتصدقون. ولم يختلف السلف والخلف في أن المراد به الصدقة. ومن أهل العلم من قال: إن هذا في صدقة التطوع، لأن الفرض إذا أخرج عنه الردي كان الفضل باقيا في ذمته حتى يؤدى. وهذا عندنا يوجب صرف اللفظ عن الوجوب إلى النفل من وجوه: