والذي أوجب نسخ الوصية عندنا للوالدين والأقربين قوله تعالى في سياق آية المواريث: (من بعد وصية يوصى بها أو دين) [النساء: 12] فأجازها مطلقة ولم يقصرها على الأقربين دون غيرهم، وفي ذلك إيجاب نسخها للوالدين والأقربين: لأن الوصية لهم قد كانت فرضا، وفي هذه إجازة تركها لهم والوصية لغيرهم وجعل ما بقي ميراثا للورثة على سهام مواريثهم، وليس يجوز ذلك إلا وقد نسخ تلك الوصية.
فإن قيل: يحتمل أن يريد بهذه الوصية المذكورة في آية المواريث وإيجاب المواريث بعدها الوصية الواجبة للوالدين والأقربين، فيكون حكمها ثابتا لمن لا يرث منهم؟ قيل له: هذا غلط من قبل أنه أطلق الوصية في هذا الموضع بلفظ منكور يقتضي شيوعها في الجنس، إذ كان ذلك حكم النكرات، والوصية المذكورة للوالدين والأقربين لفظها لفظ المعرفة، فغير جائز صرفها إليها إذ لو أرادها لقال: (من بعد الوصية) حتى يرجع الكلام إلى المعرف المعهود من الوصية التي قد علمت، كما قال تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم) [النور: 4] وقال في آية أخرى لما أراد الشهداء المذكورين: (فإذا لم يأتوا بالشهداء) [النور: 13] فعرفهم بالألف واللام، إذ كان المراد (أولئك الشهداء). فلما أطلق الوصية في آية المواريث بلفظ منكور ثبت أنه لم يرد بها الوصية المذكورة للوالدين والأقربين، وأنها مطلقة جائزة لسائر الناس إلا ما خصته السنة أو الاجماع من الوصية للوارث أو للقاتل ونحوهما، وفي ثبوت ذلك نسخ الوصية للوالدين والأقربين.
قال أبو بكر: استدل محمد بن الحسن رحمه الله على أن الوالدين ليسوا من الأقرباء بقوله تعالى: (الوصية للوالدين والأقربين) ولأنهم لا يدلون بغيرهم ورحمهم بأنفسهم وسائر الأرحام سواهما، إنما يدلون بغيرهم، فالأقربون من يقرب إليه بغيره، وقال: (إن ولد الصلب ليسوا من الأقربين أيضا، لأنه بنفسه يدلي برحمه لا بواسطة بينه وبين والده، ولأنه إذا لم يكن الوالدان من الأقربين والولد أقرب إلى والده من الوالد إلى ولده، فهو أحرى أن لا يكون من الأقربين) ولذلك قال فيمن أوصى لأقرباء بني فلان: (إنه لا يدخل فيها ولده ولا والده ويدخل فيها ولد الولد والجد والأخوة ومن جرى مجراهم، لأن كلا منهم يدلي إليه بواسطة غير مدل بنفسه) وفي معنى الأقرباء خلاف، والله أعلم.
باب الوصية للوارث إذا أجازتها الورثة قال أبو بكر: قد بينا نسخ الوصية للورثة بما قدنا. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا وصية لوارث إلا أن يجيزها الورثة) وفيه بيان أن الأخبار الواردة بأن لا وصية