والخامس: جواز النسخ قبل وقوع الفعل بعد التمكن منه، وذلك أن زيادة هذه الصفات في البقرة كل منها قد نسخ ما قبلها، لأن قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) اقتضى ذبح بقرة أيها كانت، وعلى أي وجه شاؤوا وقد كانوا متمكنين من ذلك فلما قالوا: (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) فقال: (إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون) نسخ التخيير الذي أوجبه الأمر الأول في ذبح البقرة الموصوفة بهذه الصفة وذبح غيرها، وقصروا على ما كان منها بهذه الصفة وقبل لهم افعلوا ما تؤمرون، فأبان أنه كان عليهم أن يذبحوا من غير تأخير على هذه الصفة أي لون كانت وعلى أي حال كانت من ذلول أو غيرها، فلما قالوا: (ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها) نسخ التخيير الذي كان في ذبح أي لون شاؤوا منها وبقي التخيير في الصفة الأخرى من أمرها، فلما راجعوا نسخ ذلك أيضا وأمروا بذبحها على الصفة التي ذكر واستقر الفرض عليها بعد تغليظ المحنة وتشديد التكليف.
وهذا الذي ذكرنا في أمر النسخ دل أن الزيادة في النص بعد استقرار حكمه يوجب نسخه، لأن جميع ما ذكرنا من الأوامر الواردة بعد مراجعة القوم إنما كان زيادة في نص كان قد استقر حكمه فأوجب نسخه. ومن الناس من يحتج بهذه القصة في جواز نسخ الفرض قبل مجئ وقته، لأنه قد كان معلوما أن الفرض عليهم بدأ قد كان بقرة معينة فنسخ ذلك عنهم قبل مجئ وقت الفعل، وهذا غلط، لأن كل فرض من ذلك قد كان وقت فعله عقيب ورود الأمر في أول أحوال الإمكان واستقر الفرض عليهم وثبت ثم نسخ قبل الفعل، فلا دلالة فيه إذا على جواز النسخ قبل مجئ وقت الفعل، وقد بينا ذلك في أصول الفقه.
مطلب دل قوله تعالى (لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك) على جواز الاجتهاد والسادس: دلالة قوله: (فارض ولا بكر عوان بين ذلك) على جواز الاجتهاد واستعمال غالب الظن في الأحكام، إذا لا يعلم أنها بين البكر والفارض إلا من طريق الاجتهاد.
والسابع: استعمال الظاهر مع تجويز أن يكون في الباطن خلافه بقوله: (مسلمة لاشية فيها) يعني - والله أعلم - مسلمة من العيوب بريئة منها، وذلك لا نعلمه من طريق الحقيقة وإنما نعلمه من طريق الظاهر مع تجويز أن يكون بها عيب باطن.
والثامن: ما حكى الله عنهم في المراجعة الأخيرة: (وإنا إن شاء الله لمهتدون) لما