وللمقصرين مرة! فقال: (إنهم لم يشكوا) ومعنى ذلك أنهم لم يشكوا أن الحلق أفضل من التقصير، فاستحقوا من الثواب بعلمهم لذلك ما لم يستحقه الآخرون.
فإن قيل: فكيفما جزى الأمر فقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالحلق وأمره على الوجوب، ودعاؤه للفريقين من المحلقين والمقصرين دليل على أنه نسك، وما ذكرته من أن القوم كرهوا الحلق قبل الوصول إلى البيت وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم به، ليس بناف وجه الدلالة منه على كونه نسكا. فإنه يقال: قد روى المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قصة الحديبية فقالا فيه: فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أحلوا وانحروا) وذكر في بعض الأخبار الحلق.
فنستعمل اللفظين، فنقول: ما حل به من شئ فهو حلال، لقوله صلى الله عليه وسلم (أجلوا) وقوله (أحلوا) المقصد به الإحلال لا تعيينه بالحلق دون غيره، وإنما استحقوا الثواب لإحلالهم ولا وائتمارهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الحلق أفضل من التقصير لجدهم واجتهادهم في متابعة أمره صلى الله عليه وسلم، والله أعلم بالصواب.
باب ما يجب على المحصر بعد إحلاله من الحج بالهدي قال الله تعالى بعد ما ذكر في شأن المحصر: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) واختلف السلف وفقهاء الأمصار في المحصر بالحج إذ حل بالهدي، فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس، ومجاهد عن عبد الله بن مسعود قالا: (عليه عمرة وحجة)، فإن جمع بينهما في أشهر الحج فعليه دم وهو متمتع، وإن لم يجمعهما في أشهر الحج فلا دم عليه وكذلك قال علقمة والحسن وإبراهيم وسالم والقاسم ومحمد بن سيرين، وهو قول أصحابنا. وروى أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال:
(أمر الله بالقصاص أو يأخذ منكم العدوان حجة بحجة وعمرة بعمرة). وروي عن الشعبي قال: (عليه حجة). وإنما يوجب أبو حنيفة عليه حجة وعمرة إذا أحل بالدم ثم لم يحج من عامه ذلك، فلو أنه أحل من إحرامه قبل يوم النحر ثم زال الإحصار فأحرم بالحج وحج من عامه لم يكن عليه عمرة، وذلك لأن هذه العمرة إنما هي التي تلزم بالفوات، لأن من فاته الحج فعليه أن يتحلل بعمل عمرة، فلما حصل حجه فائتا كان عليه عمرة للفوات، والدم الذي عليه في الإحصار إنما هو للإحلال ولا يقوم مقام العمرة التي تلزم بالفوات، وذلك لأنه ليس في الأصول عمرة يقوم مقامها دم، ألا ترى أن من نذر عمرة لم ينب عنها دم لا في حال العذر ولا في حال الإمكان؟ وكذلك من يجعل العمرة فريضة لا يجعل الدم نائبا عنها بحال، فلما كان الفوات قد ألزمه عمل عمرة لم يجز أن ينوب عنها دم، فثبت بذلك أن الدم إنما هو للإحلال فحسب ويدل على ذلك أن العمرة التي