ألا ترى أنه يصح تكرار المعنى الواحد بلفظين مختلفين في خطاب واحد ولا يصلح مثله بلفظ واحد نحو قوله تعالى: (وغرابيب سود) [فاطر: 27] ونحو قول الشاعر:
وألفى أبي قولها كذبا ومينا كرر المعنى الواحد بلفظين وكان ذلك سائغا، ولا يصح مثله في تكرار اللفظ.
وكذلك قوله: (ولكم في القصاص حياة) لا تكرار فيه مع إفادته للقاتل من جهة القاتل، إذ كان ذكر القصاص يفيد ذلك، ألا ترى أنه لا يكون قصاصا إلا وقد تقدمه قتل من المقتص منه؟ وفي قولهم ذكر للقتل وتكرار له في اللفظ، وذلك نقصان في البلاغة، فهذا وأشباهه مما يظهر به للمتأمل إبانة القرآن في جهة البلاغة والإعجاز من كلام البشر، إذ ليس يوجد في كلام الفصحاء من جمع المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة مثل ما يوجد في كلام الله تعالى.
باب كيفية القصاص قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى) وقال في آية أخرى: (والجروح قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) [البقرة: 194] وقال: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) [النحل: 126] فأوجب بهذه الآي استيفاء المثل ولم يجعل لأحد ممن أوجب عليه أو على وليه أن يفعل بالجاني أكثر مما فعل.
واختلف الفقهاء في كيفية القصاص، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر:
(على أي وجه قتله لم يقتل إلا بالسيف). وقال ابن القاسم عن مالك: (إن قتله بعصا أو بحجر أو بالنار أو بالتغريق قتله بمثله، فإن لم يمت بمثله فلا يزال يكرر عليه من جنس ما قتله به حتى يموت، وإن زاد على فعل القاتل الأول). وقال ابن شبرمة: (نضربه مثل ضربه ولا نضربه أكثر من ذلك، وقد كانوا يكرهون المثلة ويقولون السيف يجزي عن ذلك كله، فإن غمسه في الماء فإني لا أزال أغمسه فيه حتى يموت). وقال الشافعي: (إن ضربه بحجر فلم يقلع عنه حتى مات فعل به مثل ذلك، وإن حبسه بلا طعام ولا شراب حتى مات حبس، فإن لم يمت في مثل تلك المدة قتل بالسيف).
قال أبو بكر: لما كان في مفهوم قوله: (كتب عليكم القصاص في القتلى) وقوله: (الجروح قصاص) استيفاء المثل من غير زيادة عليه، كان محظورا على الولي استيفاء زيادة على فعل الجاني، ومتى استوفى على مذهب من ذكرنا في التحريق والتغريق والرضخ بالحجارة والحبس أدى ذلك إلى أن يفعل به أكثر مما فعل، لأنه إذا لم