في استدعائه واستدعاء رعيته إلى الاسلام. وكذلك كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وخصهما بالذكر دون رعاياهما وإن كان رسولا إلى كافة الناس، لما وصفناه من أن الرعية تبع للراعي، وكذلك قال عليه السلام في كتابه لكسرى: (أما بعد فأسلم تسلم وإلا فعليك إثم المجوس) وقال لقيصر (أسلم تسلم وإلا فعليك إثم الأريسين) يعني أنك إذا آمنت تبعتك الرعية، وإن أبيت لم تستجب الرعية إلى الاسلام خوفا منك فهم تبع لك في الاسلام والكفر. فلذلك - والله أعلم - خص الملكين من أهل بابل بإرسال الملكين إليهما كما قال الله تعالى: (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس) [الحج: 75].
فان قيل: فكيف يكون الملائكة مرسلا إليهم ومنزلا عليهم؟ قيل له: هذا جائز شائع، لأن الله تعالى قد يرسل الملائكة بعضهم إلى بعض كما يرسلهم إلى الأنبياء، كثف أجسامهم وجعلهم كهيئة بني آدم لئلا ينفروا منهم، قال الله تعالى: (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) [الأنعام: 9] يعني هيئة الرجل.
وقوله تعالى: (يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين) معناه - والله أعلم - أن الله أرسل الملكين ليبينا للناس معاني السحر ويعلموهم أنه كفر وكذب وتمويه لا حقيقة له حتى يجتنبوه، كما بين الله على ألسنة رسله سائر المحظورات والمحرمات ليجتنبوه ولا يأتوه، فلما كان السحر كفرا أو تمويها وخداعا وكان أهل ذلك الزمان قد اغتروا به وصدقوا السحرة فيما ادعوه لأنفسهم به، بين ذلك للناس على لسان هذين الملكين ليكشفا عنهم غمة الجهل ويزجراهم لا عن الاغترار به، كما قال تعالى (وهديناه النجدين) [البلد: 10] يعني، والله أعلم: بينا سبيل الخير والشر ليجتبي الخير ويجتنب الشر. وكما قيل لعمر بن الخطاب: فلان لا يعرف الشر، قال: (أجدر أن يقع فيه).
ولا فرق بين بيان معاني السحر والزجر عنه، وبين بيان سائر ضروب الكفر وتحريم الأمهات والأخوات وتحريم الزنا والربا وشرب الخمر ونحوه، لأن الغرض لما بينا في اجتناب المحظورات والمقبحات كهو في بيان الخير، إذ لا يصل إلى فعله إلا بعد العلم به، كذلك اجتباء الطاعات والواجبات، فمن حيث وجبت وجب بيان الشر ليجتنبه إذ لا يصل إلى تركه واجتنابه إلا بعد العلم به. ومن الناس من يزعم أن قوله: (وما أنزل على الملكين) معناه أن الشياطين كذبوا على ما أنزل على الملكين كما كذبوا على سليمان، وأن السحر الذي يتلوه هؤلاء لم ينزل عليهما، وزعم أن قوله تعالى:
(فيعلمون منهما) معناه: من السحر والكفر، لأن قوله (ولكن الشياطين كفروا) يتضمن الكفر فرجع الضمير إليهما، كقوله تعالى: (سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى) [الأعلى: 10 و 11] أي يتجنب الأشقى الذكرى. قال: وقوله (وما يعلمان من أحد)