الذي جعل الأرض بمنزلة البيت الذي يأوي إليه الانسان، وجعل السماء بمنزلة السقف، وجعل سائر ما يحدثه من المطر والنبات والحيوان بمنزلة ما ينقله الانسان إلى بيته لمصالحه! ثم سخر هذه الأرض لنا وذللها للمشي عليها وسلوك طرقها، ومكننا من الانتفاع بها في بناء البيوت والدور لنسكن من المطر والحر والبرد وتحصنا من الأعداء لم تخرجنا إلى غيرها، فأي موضع منها أردنا الانتفاع به في إنشاء الأبنية مما هو موجود فيها من الحجارة والجص والطين ومما يخرج منها من الخشب والحطب أمكننا ذلك. وسهل علينا سوى ما أودعهما من الجواهر التي عقد بها منافعنا من الذهب والفضة والحديد والرصاص والنحاس وغير ذلك كما قال تعالى: (وقدر فيها أقواتها) [فصلت: 10].
فهذه كلها وما يكثر تعداده ولا يحيط علمنا به من بركات الأرض ومنافعها.
ثم لما كانت مدة أعمارنا وسائر الحيوان لا بد من أن تكون متناهية جعلها كفاتا لنا بعد الموت كما جعلها في الحياة فقال تعالى: (ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا) [المرسلات: 25، 26]، وقال تعالى: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا) [الكهف: 7 و 8] ثم لم يقتصر فيما خلق من النبات والحيوان على الملذ دون المؤلم ولا على الغذاء دون السم ولا على الحلو دون المر، بل مزج ذلك كله ليشعرنا أنه غير مريد منا الركون إلى هذه اللذات ولئلا تطمئن نفوسنا إليها فتشتغل بها عن دار الآخرة التي خلقنا لها، فكان النفع والصلاح في الدين في الذوات المؤلمة المؤذية كهو في الملذة السارة، وليشعرنا في هذه الدنيا كيفية الآلام ليصح الوعيد بآلام الآخرة ولننزجر عن القبائح فنستحق النعيم الذي لا يشوبه كدر ولا تنغيص.
فلو اقتصر العاقل من دلائل التوحيد على ما ذكره الله تعالى في هذه الآية الواحدة لكان كافيا شافيا في إثباته وإبطال قول سائر أصناف الملحدين من أصحاب الطبائع ومن الثنوية ومن يقول بالتشبيه، ولو بسطت معنى الآية وما تضمنته من ضروب الدلائل لطال وكثر، وفيما ذكرنا كفاية في هذا الموضع، إذ كان الغرض فيه التنبيه على مقتضى دلالة الآية بوجيز من القول دون الاستقصاء، والله نسأل حسن التوفيق للاستدلال بدلائله والاهتداء بهداه وحسبنا الله ونعم الوكيل.
باب إباحة ركوب البحر وفي قوله تعالى (والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس) دلالة على إباحة ركوب البحر غازيا وتاجرا ومبتغيا في لسائر المنافع، إذ لم يخص ضربا من المنافع دون