أهل العراق على سائر المذاهب، ومبلغ اتساعهم في الحفظ، وكثرة الحفاظ بينهم من أقدم العصور الاسلامية إلى عصرنا هذا، زيادة على ما لهم من الفهم الدقيق، والغوص في المعاني، وقد اعترف لهم بذلك كل الخصوم، ونظرة عجلى في كتب الجرح والتعديل، والله سبحانه حسبي، ونعم الوكيل.
الرأي والاجتهاد وردت في الرأي، آثار تذمه. وآثار تمدحه، والمذموم هو الرأي عن هوى، والممدوح هو استنباط حكم النازلة من النص، على طريقة فقهاء الصحابة. والتابعين.
وتابعيهم، برد النظير إلى نظيره، في الكتاب، والسنة. وقد خرج الخطيب غالب تلك الآثار في " الفقيه والمتفقه "، وكذا ابن عبد البر، مع بيان موارد تلك الآثار. والقول المحتم في ذلك: إن فقهاء الصحابة. والتابعين. وتابعيهم، جروا على القول بالرأي بالمعنى الذي سبق " أعني استنباط حكم النازلة من النص "، وهذا من الاجماعات التي لا سبيل إلى إنكارها، وقد قال الإمام أبو بكر الرازي في " الفصول "، بعد أن سرد ما كان عليه فقهاء الصحابة. والتابعين من القول بالرأي: " إلى أم أن نشأ قوم ذو جهل بالفقه وأصوله، لا معرفته لهم بطريقة السلف، ولا توفى للاقدام على الجهالة، واتباع الأهواء البشعة التي خالفوا بها الصحابة، ومن بعدهم من أخلافهم، فكان أول من نفى القياس والاجتهاد في أحكام الحوادث، وإبراهيم النظام، وطعن على الصحابة من أجل قولهم بالقياس، ونسبهم إلى ما لا يليق بهم، وإلى ضد ما وصفهم الله به، وأثنى به عليهم - بتهوره وقلة علمه بهذا الشأن -، ثم تبعه على هذا القول نفر من المتكلمين البغداديين، إلا أنهم لم يطعنوا على السلف كطعنه، ولم يعيبوهم، لكنهم ارتكبوا من المكابرة، وجحد الضرورة أمرا بشعا، فرارا من الطعن على السلف، في قولهم بالاجتهاد والقياس، وذلك أنهم زعموا أن قول الصحابة في الحوادث كان على وجه التوسط والصلح بين الخصوم... لا على وجه قطع الحكم، وإبرام القول، فكأنهم قد حسنوا مذهبهم بمثل هذه الجهالة، وتخلصوا من الشناعة التي لحقت النظام بتحطئته السلف، ثم تبعهم رجل من الحشو جهول، يريد - داود بن علي - لم يدر ما قال هؤلاء، ولا ما قال هؤلاء، وأخذ طرفا من كلام النظام، وطرفا من كلام متكلمي بغداد، من نقاة القياس، فاحتج به في نفى القياس والاجتهاد، مع جهله بما تكلم به الفريقان، من مثبتي القياس، ومبطليه، وقد كان مع ذلك ينفى حجج القول، ويزعم أن العقل لاحظ له في إدراك شئ من علوم الدين، فأنزل نفسه منزلة البهيمة بل هو أضل منها، ا ه "، وأبو بكر الرازي أطال النفس جدا في إقامة الحجة على حجية الرأي والقياس، بحيث لا يدع أي مجال للتشغيب ضد حجيته، فالرأي بهذا المعن، وصف مادح يوصف به كل فقيه، ينبئ عن دقة الفهم، وكمال الغوص، ولذلك تجد ابن قتيبة يذكر في " كتاب المعارف " الفقهاء