الاستنثار مأخوذ من النثرة وهي طرف الأنف وقيل الانف نفسه فعلى هذا فمن استنشق فقد استنثر لأنه يصدق أنه تناول الماء بأنفه أو بطرف أنفه وفيه نظر ثم إن ظاهر الحديث ان هذا يقع لكل نائم ويحتمل أن يكون مخصوصا بمن لم يحترس من الشيطان بشئ من الذكر لحديث أبي هريرة المذكور قبل حديث سعد فان فيه فكانت له حرزا من الشيطان وكذلك آية الكرسي وقد تقدم فيه ولا يقربك شيطان ويحتمل أن يكون المراد بنفي القرب هنا أنه لا يقرب من المكان الذي يوسوس فيه وهو القلب فيكون مبيته على الانف ليتوصل منه إلى القلب إذا استيقظ فمن استنثر منعه من التوصل إلى ما يقصد من الوسوسة فحينئذ فالحديث متناول لكل مستيقظ ثم إن الاستنشاق من سنن الوضوء اتفاقا لكل من استيقظ أو كان مستيقظا وقالت طائفة بوجوبه في الغسل وطائفة بوجوبه في الوضوء أيضا وهل تتأدى السنة بمجرده بغير استنثار أم لا خلاف وهو محل بحث وتأمل والذي يظهر انها لا تتم الا به لما تقدم والله أعلم (قوله باب ذكر الجن وثوابهم وعقابهم) أشار بهذه الترجمة إلى اثبات وجود الجن والى كونهم مكلفين فأما اثبات وجودهم فقد نقل امام الحرمين في الشامل عن كثير من الفلاسفة والزنادقة والقدرية أنهم أنكروا وجودهم رأسا قال ولا يتعجب ممن أنكر ذلك من غير المشرعين انما العجب من المشرعين مع نصوص القرآن والأخبار المتواترة قال وليس في قضية العقل ما يقدح في اثباتهم قال وأكثر ما استروح إليه من نفاهم حضورهم عند الانس بحيث لا يرونهم ولو شاؤوا لأبدوا أنفسهم قال وانما يستبعد ذلك من لم يحط علما بعجائب المقدورات وقال القاضي أبو بكر وكثير من هؤلاء يثبتون وجودهم وينفونه الآن ومنه من يثبتهم وينفي تسلطهم على الانس وقال عبد الجبار المعتزلي الدليل على اثباتهم السمع دون العقل إذ لا طريق إلى اثبات أجسام غائبة لان الشئ لا يدل على غيره من غير أن يكون بينهما تعلق ولو كان اثباتهم باضطرار لما وقع الاختلاف فيه الا انا قد علمنا بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتدين باثباتهم وذلك أشهر من أن يتشاغل بايراده وإذا ثبت وجودهم فقد تقدم في أوائل صفة النار تفسير قوله تعالى وخلق الجان من مارج من نار واختلف في صفتهم فقال القاضي أبو بكر الباقلاني قال بعض المعتزلة الجن أجساد رقيقة بسيطة قال وهذا عندنا غير ممتنع ان ثبت به سمع وقال أبو يعلى بن الفراء الجن أجسام مؤلفة وأشخاص ممثلة يجوز أن تكون رقيقة وأن تكون كثيفة خلافا للمعتزلة في دعواهم أنها رقيقة وان امتناع رؤيتنا لهم من جهة رقتها وهو مردود فان الرقة ليست بمانعة عن الرؤية ويجوز أن يخفى عن رؤيتنا بعض الأجسام الكثيفة إذا لم يخلق الله فينا ادراكها وروى البيهقي في مناقب الشافعي باسناده عن الربيع سمعت الشافعي يقول من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته الا أن يكون نبيا انتهى وهذا محمول على من يدعي رؤيتهم على صورهم التي خلقوا عليها وأما من ادعى أنه يرى شيئا منهم بعد أن يتطور على صور شتى من الحيوان فلا يقدح فيه وقد تواردت الاخبار بتطورهم في الصور واختلف أهل الكلام في ذلك فقيل هو تخييل فقط ولا ينتقل أحد عن صورته الأصلية وقيل بل ينتقلون لكن لا باقتدارهم على ذلك بل بضرب من الفعل إذا فعله انتقل كالسحر وهذا قد يرجع إلى الأول وفيه أثر عن عمر أخرجه بن أبي شيبة باسناد صحيح ان الغيلان ذكروا عند عمر فقال إن أحدا لا يستطيع أن يتحول عن صورته التي خلقه الله عليها
(٢٤٤)