كثير من الناس المراد بها التي لم يعرف حلها ولا حرمتها فصارت مترددة بين الحل والحرمة عند الكثير من الناس، وهم الجهال، فلا يعرفها إلا العلماء بنص، فما لم يوجد فيه شئ من ذلك اجتهد فيه العلماء وألحقوه بأيهما بقياس أو استصحاب أو نحو ذلك، فإن خفي دليله فالورع تركه ويدخل تحت فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ - أي أخذ بالبراءة - لدينه وعرضه، فإذا لم يظهر فيه للعالم دليل تحريمه ولا حله فإنه يدخل في حكم الأشياء قبل ورود الشرع، فمن لا يثبت للعقل حكما، يقول: لا حكم فيها بشئ لان الاحكام شرعية، والفرض أنه لا يعرف فيها حكم شرعي ولا حكم للعقل، والقائلون بأن العقل حاكم، لهم في ذلك ثلاثة أقوال التحريم والإباحة والوقف. وإنما اختلف في المشتبهات هل هي مما اشتبه تحريمه أو ما اشتبه بالحرام الذي قد صح تحريمه؟ رجح المحققون الأخير، ومثلوا ذلك بما ورد في حديث عقبة بن الحارث الصحابي الذي أخبرته أمة سوداء بأنها أرضعته وأرضعت زوجته فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: كيف وقد قيل؟ فقد صح تحريم الأخت من الرضاعة شرعا قطعا وقد التبست عليه زوجته بهذا الحرام المعلوم، ومثله التمرة التي وجدها صلى الله عليه وسلم في الطريق فقال: لولا أني أخاف أنها من الزكاة أو من الصدقة لأكلتها فقد صح تحريم الصدقة عليه ثم التبست هذه التمرة بالحرام المعلوم وأما ما التبس هل حرمه الله علينا أم لا؟ فقد وردت أحاديث دالة على أنه حلال، منها حديث سعد بن أبي وقاص: إن من أعظم الناس إثما في المسلمين من سأل عن شئ لم يحرم فحرم من أجل مسألته فإنه يفيد أنه كان قبل سؤاله حلالا، ولما اشتبه عليه سأل عنه فحرم من أجل مسألته، ومنها حديث ما سكت الله عنه فهو مما عفى عنه له طرق كثيرة ويدل له قوله تعالى: * (ويحلهم الطيبات) * فكل ما كان طيبا ولا يثبت تحريمه فهو حلال وإن اشتبه علينا تحريمه، والمراد بالطيب هو ما أحله الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سكت عنه، والخبيث ما حرمه وإن عدته النفوس طيبا، كالخمر، فإنه أحد الأطيبين في لسان العرب في الجاهلية. وقال ابن عبد البر: إن الحلال الكسب الطيب وهو الحلال المحض، وإن المتشابه عندنا في حيز الحلال بدلائل ذكرناها في غير هذا الموضع، ذكره صاحب تنضيد التمهيد في الترغيب في الصدقة نقله عن السيد محمد بن إبراهيم وقد حققنا أنه من قسم الحلال البين في رسالتنا المسماة القول المبين. وقال الخطابي: ما شككت فيه فالأولى اجتنابه، وهو على ثلاثة أحوال: واجب، ومستحب، ومكروه، فالواجب اجتناب ما يستلزم المحرم، والمندوب اجتناب معاملة من غلب على ماله الحرام، والمكروه اجتناب الرخصة المشروعة ا ه. قال في الشرح: وقد ينازع في المندوب فإنه إذا كان الأغلب الحرام فأولى أن يكون واجب الاجتناب وهو الذي بني عليه الهادوية في معاملة الظالم فيما لم يظن تحريمه، لان الذي غلب عليه الحرام يظن فيه التحريم ا ه وقد أوضحنا هذا في حواشي ضوء النهار. وقسم الغزالي الورع أقساما: ورع الصديقين وهو ترك ما لم تكن فيه بينة واضحة على حله، وورع المتقين وهو ما لا شبهة فيه ولكن يخاف أن يجر إلى الحرام،
(١٧٢)