فإن قلت: ما الصحيح من هذه المقامات الثلاثة؟
فاعلم أن من الناس من لم يثبت إلا الثالث، وإنما الحق الذي انكشف لنا من طريق الاستبصار أن كل ذلك في حيز الإمكان، وأن من ينكر بعض ذلك لضيق حوصلته وجهله باتساع قدرة الله تعالى وعجائب تدبيره، منكر من أفعال الله تعالى ما لم يأنس به وما لم يألفه، وذلك جهل وقصور، بل هذه الطرق الثلاثة في التعذيب ممكنة والتصديق بها واجب، ورب عبد يعاقب بنوع واحد من هذه الأنواع الثلاثة، هذا هو الحق فصدق به.
ثم قال: وسؤال منكر ونكير حق لقوله (صلى الله عليه وآله): " إذا قبر الميت أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما: منكر، وللآخر: نكير، يقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل - يعني النبي محمد -؟ فإن كان مؤمنا قال: هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله) " (1)، إلى أن قال: والأحاديث الظاهرة الدالة على عذاب القبر ونعيمه، وسؤال الملكين أكثر من أن يحصر بحيث يبلغ قدره المشترك حد التواتر وإن كان كل منهما أخبار آحاد، واتفق عليه السلف الصالح قبل ظهور المخالفين، وأنكره مطلقا ضرار بن عمر، وأكثر متأخري المعتزلة وبعض الروافض متمسكين بأن الميت جماد فلا يعذب، وما سبق حجة عليهم، ومن تأمل عجائب الملك والملكوت وغرائب صنعه تعالى لم يستنكف عن قبول أمثال هذا، فإن للنفس نشآت، وفي كل نشأة تشاهد صورا تقتضيها تلك النشأة، فكما أنها تشاهد في المنام أمورا لم تكن تشاهد في اليقظة فكذا تشاهد في حال انخلاع البدن أمورا لم تكن تشاهد في الحياة، وإلى هذا يشير قول من قال: " الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا " انتهى.