ومما يدلنا على ذلك بوضوح: وضع الأعلام الشخصية، فإن كل شخص إذا راجع وجدانه ظهر له أنه إذا أراد أن يضع اسما لولده - مثلا - يتصور أولا ذات ولده، وثانيا: لفظا يناسبه، ثم يتعهد في نفسه بأنه متى قصد تفهيمه يتكلم بذلك اللفظ، وليس هاهنا شئ آخر ما عدا ذلك.
وإن أريد به تعهد غيره من المستعملين فالأمر وإن كان كذلك - يعني: أن تعهدهم وإن كان مسبوقا بتعهده - إلا أنه لا يمنع عن كونهم واضعين حقيقة، ضرورة أن تعهد كل أحد لما كان فعلا اختياريا له يستحيل أن يصدر من غيره.
غاية الأمر: التعهد من الواضع الأول تعهد ابتدائي غير مسبوق بشئ، ومن غيره ثانوي، ولأجله ينصرف لفظ الواضع إلى الجاعل الأول.
وعلى هذه الالتزامات والتعهدات قد استقرت السيرة العقلائية في مقام الاحتجاج واللجاج، فيحتج العقلاء بعضهم على بعض بمخالفته التزامه ويؤاخذونه عليها، وكذلك الموالي والعبيد، فلو أن أحدا يخالف التزامه ولم يعمل على طبق ظهور كلام مولاه يحتج المولى عليه بمخالفته التزامه، ويعاقب عليها، ولا عذر له في ذلك. ولو عمل على طبق ظهوره فله حجة يحتج بها على مولاه، وهكذا...
وعلى الجملة: أن أنظمة الكون كلها من المادية والمعنوية تدور مدار الجري على وفق هذه الالتزامات، ولولاه لاختلت.
فبالنتيجة: أن مذهبنا هذا ينحل إلى نقطتين:
النقطة الأولى: أن كل متكلم واضع حقيقة، وتلك نتيجة ضرورية لمسلكنا: أن حقيقة الوضع: (التعهد والالتزام النفساني).
النقطة الثانية: أن العلقة الوضعية مختصة بصورة خاصة، وهي: ما إذا قصد المتكلم تفهيم المعنى باللفظ، وهي أيضا نتيجة حتمية للقول بالتعهد، بل وفي الحقيقة هذه هي النقطة الرئيسية لمسلكنا هذا، فإن عليها تترتب نتائج ستأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى.