يرجع في ذلك إلى العالم بالوضع، كما هو طريقة دارجة بين أهل المحاورة في مقام استعلام اللغات الأجنبية وتعاليمها، وبذلك يندفع الدور من أصله.
الثاني: أن التبادر وإن كان متوقفا على العلم بالوضع لا محالة إلا أن ذلك العلم ارتكازي مكنون في خزانة النفس، وثابت في حافظة أهل كل لغة بالقياس إلى لغاتهم، وهم يستعملون تلك اللغات في معانيها حسب ذلك الارتكاز من دون التفات تفصيلي منهم إلى خصوصيات تلك المعاني من حيث السعة والضيق، فإذا حصل الالتفات منهم إلى خصوصيات تلك المعاني حصل لهم العلم تفصيلا بها، وبذلك تحصل المغايرة بين العلمين، فارتفع الدور من البين.
ثم لا يخفى أن تبادر المعنى من نفس اللفظ من دون قرينة لا يثبت به إلا وضع اللفظ لذلك المعنى، وكون استعماله فيه حقيقيا في زمان تبادره منه. وأما وضعه لذلك المعنى في زمان سابق عليه فلا يثبت بالتبادر المتأخر، فلا بد في إثبات ذلك من التشبث بالاستصحاب القهقرى الثابت حجيته في خصوص باب الظهورات بقيام السيرة العقلائية وبناء أهل المحاورة عليه، فإنهم يتمسكون بذلك الاستصحاب في موارد الحاجة ما لم تقم حجة أقوى على خلافه. بل على ذلك الأصل يدور استنباط الأحكام الشرعية من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة، ضرورة أنه لولا اعتباره لا يثبت لنا أن هذه الألفاظ كانت ظاهرة في تلك الأزمنة في المعاني التي هي ظاهرة فيها في زماننا، ولكن ببركة ذلك الاستصحاب نثبت ظهورها فيها في تلك الأزمنة أيضا ما لم تثبت قرينة على خلافها، وسمي ذلك الاستصحاب بالاستصحاب القهقرى، فإنه على عكس الاستصحاب المصطلح السائر في الألسنة، فإن المتيقن فيه أمر سابق، والمشكوك فيه لاحق، على عكس الاستصحاب القهقرى فإن المشكوك فيه فيه أمر سابق،