نفسه بالمؤمن، ويقول إيماني كإيمانك فقال: * (آمنا) * يعني أنا والمؤمن حقا آمنا، إشعارا بأن إيمانه كإيمانه، وهذا كما أن الجبان الضعيف إذا خرج مع الأبطال في القتال، وهزموا خصومهم يقول الجبان خرجنا وقاتلناهم وهزمناهم، فيصح من السامع لكلامه أن يقول وماذا كنت أنت فيهم حتى تقول خرجنا وقاتلنا؟ وهذا الرد يدل على أنه يفهم من كلامه أن خروجه وقتاله كخروجهم وقتالهم، لأنه لا يصح الإنكار عليه في دعوى نفس الخروج والقتال، وكذا قول القائل أنا والملك ألفينا فلانا واستقبلناه ينكر، لأن المفهوم منه المساواة فهم لما أرادوا إظهار كون إيمانهم كإيمان المحقين كان الواحد يقول: * (آمنا) * أي أنا والمحق.
المسألة الثانية: قوله: * (فإذا أوذي في الله) * هو في معنى قوله: * (وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي) * (آل عمران: 195) غير أن المراد بتلك الآية الصابرون على أذية الكافرين والمراد ههنا الذين لم يصبروا عليها فقال هناك: * (وأوذوا في سبيلي) * (آل عمران: 195) وقال ههنا: * (أوذي في الله) * ولم يقل في سبيل الله واللطيفة فيه أن الله أراد بيان شرف المؤمن الصابر وخسة المنافق الكافر فقال هناك أوذي المؤمن في سبيل الله ليترك سبيله ولم يتركه، وأوذي المنافق الكافر فترك الله بنفسه، وكان يمكنه أن يظهر موافقتهم إن بلغ الإيذاء إلى حد الإكراه، ويكون قلبه مطمئنا بالإيمان فلا يترك الله، ومع هذا لم يفعله بل ترك الله بالكلية، والمؤمن أوذي ولم يترك سبيل الله بل أظهر كلمتي الشهادة وصبر على الطاعة والعبادة.
المسألة الثالثة: قوله: * (جعل فتنة الناس كعذاب الله) * قال الزمخشري: جعل فتنة الناس صارفة عن الإيمان كما أن عذاب الله صارف عن الكفر، وقيل جزعوا من عذاب الناس كما جزعوا من عذاب الله، وبالجملة معناه أنهم جعلوا فتنة الناس مع ضعفها وانقطاعها كعذاب الله الأليم الدائم حتى ترددوا في الأمر، وقالوا إن آمنا نتعرض للتأذي من الناس وإن تركنا الإيمان نتعرض لما توعدنا به محمد عليه الصلاة والسلام، واختاروا الاحتراز عن التأذي العاجل ولا يكون التردد إلا عند التساوي ومن أين إلى أين تعذيب الناس لا يكون شديدا، ولا يكون مديدا لأن العذاب إن كان شديدا كعذاب النار وغيره يموت الإنسان في الحال فلا يدوم التعذيب، وإن كان مديدا كالحبس والحصر لا يكون شديدا وعذاب الله شديد وزمانه مديد، وأيضا عذاب الناس له دافع وعذاب الله ماله من دافع، وأيضا عذاب الناس عليه ثواب عظيم، وعذاب الله بعده عذاب أليم، والمشقة إذا كانت مستعقبة للراحة العظيمة تطيب ولا تعد عذابا كما تقطع السلعة المؤذية ولا تعد عذابا.
المسألة الرابعة: قال: * (فتنة الناس) * ولم يقل عذاب الناس لأن فعل العبد ابتلاء وامتحان من الله وفتنته تسليط بعض الناس على من أظهر كلمة الإيمان ليؤذيه فتبين منزلته كما جعل التكاليف ابتلاء وامتحانا وهذا إشارة إلى أن الصبر على البلية الصادرة ابتلاء وامتحانا من الإنسان كالصبر على العبادات.