ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون لما أعاد من الدلائل التي مضت دليلا من دلائل الآفاق وهو قوله: * (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا) * (الروم: 48) وذكر أحوال الريح من أوله إلى آخره أعاد دليلا من دلائل الأنفس وهو خلق الآدمي وذكر أحواله، فقال: * (خلقكم من ضعف) * أي مبناكم على الضعف كما قال تعالى: * (خلق الإنسان من عجل) * (الأنبياء: 37) ومن ههنا كما تكون في قول القائل فلان زين فلانا من فقره وجعله غنيا أي من حالة فقره، ثم قال تعالى: * (ثم جعل من بعد ضعف قوة) * فقوله من ضعف إشارة إلى حالة كان فيها جنينا وطفلا مولودا ورضيعا ومفطوما فهذه أحوال غاية الضعف، وقوله: * (ثم جعل من بعد ضعف قوة) * إشارة إلى حالة بلوغه وانتقاله وشبابه واكتهاله، وقوله: * (ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير) *.
إشارة إلى ما يكون بعد الكهولة من ظهور النقصان والشيبة هي تمام الضعف، ثم بين بقوله * (يخلق ما يشاء) * إن هذا ليس طبعا بل هو بمشيئة الله تعالى كما قال تعالى في دلائل الآفاق * (فيبسطه في السماء كيف يشاء) * (الروم: 48) * (هو العليم القدير) * لما قدم العلم على القدرة؟ وقال من قبل * (وهو العزيز الحكيم) * (الروم: 27) فالعزة إشارة إلى تمام القدرة والحكمة إلى العلم، فقدم القدرة هناك وقدم العلم على القدرة ههنا فنقول هناك المذكور الإعادة بقوله: * (وهو أهون عليه، وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم) * (الروم: 27) لأن الإعادة تكون بكن فيكون، فالقدرة هناك أظهر وههنا المذكور الابداء وهو أطوار وأحوال والعلم بكل حال حاصل فالعلم ههنا أظهر، ثم إن قوله تعالى: * (وهو العليم القدير) * تبشير وإنذار لأنه إذا كان عالما بأعمال الخلق كان عالما بأحوال المخلوقات فإن عملوا خيرا علمه وإن عملوا شرا علمه، ثم إذا كان قادرا فإذا علم الخير أثاب وإذا علم الشر عاقب، ولما كان العلم بالأحوال قبل الإثابة والعقاب الذين هما بالقدرة قدم العلم، وأما في الآخرة فالعلم بتلك الأحوال مع العقاب فقال: * (وهو العليم الحكيم) * وإلى مثل هذا مثل هذا أشار في قوله: * (فتبارك الله أحسن الخالقين) * (المؤمنون: 14) عقيب خلق الإنسان، فنقول أحسن إشارة إلى العلم لأن حسن الخلق بالعلم، والخلق المفهوم من قوله: * (الخالقين) * إشارة إلى القدرة، ثم لما بين ذكر الابداء والإعادة كالابداء ذكره بذكر أحوالها وأوقاتها.
* (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون) *.
قيل ما لبثوا في الدنيا غير ساعة. وقيل ما لبثوا في القبور، وقيل ما لبثوا من وقت فناء الدنيا إلى وقت النشور * (كذلك كانوا يؤفكون) * يصرفون من الحق إلى الباطل ومن الصدق إلى الكذب.