وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون للخلاص من النار، وكل واحد بما في نظره فرح، وأما المخلص فلا يفرح بما يكون لديه، وإنما يكون فرحه بأن يحصل عند الله ويقف بين يديه وذلك لأن كل ما لدينا نافد لقوله تعالى: * (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) * (النحل: 96) فلا مطلوب لكم فيما لديكم حتى تفرحوا به وإنما المطلوب ما لدى الله وبه الفرح كما قال تعالى: * (بل أحياء عند ربهم يرزقون) * (آل عمران: 169) * (فرحين بما آتاهم الله من فضله) * (آل عمران: 170) جعلهم فرحين بكونهم عند ربهم ويكون ما أوتوا من فضله الذي لا نفاد له، ولذلك قال تعالى: * (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) * (يونس: 58) لا بما عندهم فإن كل ما عند العبد فهو نافد، أما في الدنيا فظاهر، وأما في الآخرة فلأن ما وصل إلى العبد من الالتذاذ بالمأكول والمشروب فهو يزول، ولكن الله يجدد له مثله إلى الأبد من فضله الذي لا نفاد له فالذي لا نفاد له هو فضله.
* (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذآ أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون) *.
لما بين التوحيد بالدليل وبالمثل، بين أن لهم حالة يعرفون بها، وإن كانوا ينكرونها في وقت وهي حالة الشدة، فإن عند انقطاع رجائه عن الكل يرجع إلى الله، ويجد نفسه محتاجة إلى شيء ليس كهذه الأشياء طالبة به النجاة * (ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون) * يعني إذا خلصناه يشرك بربه ويقول تخلصت بسبب اتصال الكوكب الفلاني بفلان، وبسبب الصنم الفلاني، لا، بل ينبغي أن لا يعتقد أنه تخلص بسبب فلان إذا كان ظاهرا فإنه شرك خفي، مثاله رجل في بحر أدركه الغرق فيهئ له لوحا يسوقه إليه ريح فيتعلق به وينجو، فيقول تلخصت بلوح، أو رجل أقبل عليه سبع فيرسل الله إليه رجلا فيعينه فيقول خلصني زيد، فهذا إذا كان عن اعتقاد فهو شرك خفي، وإن كان بمعنى أن الله خلصني على يد زيد فهو أخفى، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله تعالى: * (أذاقهم) * فيه لطيفة وذلك لأن الذوق يقال في القليل فإن العرف (أن) من أكل مأكولا كثيرا لا يقول ذقت، ويقال في النفي ما ذقت في بيته طعاما نفيا للقليل ليلزم نفي الكثير بالأولى، ثم إن تلك الرحمة لما كانت خالية منقطعة ولم تكن مستمرة في الآخرة إذ لهم في الآخرة عذاب قال أذاقهم ولهذا قال في العذاب: * (ذوقوا مس سقر) * (القمر: 48) * (ذوقوا ما كنتم تعملون) * (العنكبوت: 55) * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) * (الدخان: 49) لأن عذاب الله الواصل إلى العبد بالنسبة إلى الرحمة الواصلة إلى عبيد آخرين في غاية القلة.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (منه) * أي من الضر في هذا التخصيص ما ذكرناه من الفائدة وهي أن الرحمة غير مطلقة لهم إنما هي عن ذلك الضر وحده، وأما الضر المؤخر فلا يذوقون منه رحمة.