ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فنبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور (23) نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ (24) والوجه بمعنى النفس والذات، ومعنى قوله: * (يسلم وجهه إلى الله) * يسلم نفسه إلى الله كما يسلم واحد متاعا إلى غيره ولم يزد على هذا، ويمكن أن يزاد عليه ويقال من أسلم لله أعلى درجة ممن يسلم إلى الله، لأن إلى للغاية واللام للاختصاص، يقول القائل أسلمت وجهي إليك أي توجهت نحوك وينبئ هذا عن عدم الوصول لأن التوجه إلى الشيء قبل الوصول وقوله أسلمت وجهي لك يفيد الاختصاص ولا ينبئ عن الغاية التي تدل على المسافة وقطعها للوصول، إذا علم هذا فنقول في البقرة قالت اليهود والنصارى: * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) * (البقرة: 111) فقال الله ردا عليهم: * (تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم) * (البقرة: 111) ثم بين فساد قولهم بقوله تعالى: * (بلى من أسلم وجهه لله) * أي أنتم مع أنكم تتركون الله للدنيا وتولون عنه للباطل وتشترون بآياته ثمنا قليلا تدخلون (النار) ومن كان بكليته لله لا يدخلها، هذا كلام باطل فأورد عليهم من أسلم لله ولا شك أن النقض بالصورة التي هي ألزم أولى فأورد عليهم المخلص الذي ليس له أمر إلا الله وقال: أنتم تدخلون الجنة وهذا لا يدخلها، ثم بين كذبهم وقال: بلى وبين أن له فوق الجنة درجة وهي العندية بقوله: * (فله أجره عند ربه) * وأما ههنا أراد وعد المحسن بالثواب والوصول إلى الدرجة العالية فوعد من هو دونه ليدخل فيه من هو فوقه بالطريق الأولى ويعم الوعد وهذا من الفوائد الجليلة. ثم قال تعالى: * (فقد استمسك بالعروة الوثقى) * أوثق العرى جانب الله لأن كل ما عداه هالك منقطع وهو باق لا انقطاع له، ثم قال تعالى: * (وإلى الله عاقبة الأمور) * يعني استمسك بعروة توصله إلى الله وكل شيء عاقبته إليه فإذا حصل في الحال ما إليه عاقبته في عاقبته في غاية الحسن وذلك لأن من يعلم أن عاقبة الأمور إلى واحد ثم يقدم إليه الهدايا قبل الوصول إليه يجد فائدته عند القدوم عليه، وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله: * (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله) * (البقرة: 110).
ثم قال تعالى (ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فنبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور ونمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) لما بين حال المسلم رجع إلى بيان حال الكافر فقال (ومن كفر فلا يحزنك) أي لا تحزن إذا كفر كافر فان من يكذب وهو قاطع بأن صدقه يتبين عن قريب لا يحزن، بل قد يؤنب (1) المكذب على الزيادة في التكذيب إذا لم يكن من الهداة ويكون المكذب من العداة ليخجله غاية التخجيل، وأما إذا كان لا يرجو ظهور صدقه يتألم من التكذيب، فقال فلا يحزنك كفره، فان المرجع إلى فأنبئهم بما عملوا فيخجلون وقوله (إن الله عليم بذات الصدور) أي لا يخفى عليه سرهم وعلانيتهم * (هامش) * (1) في الطبعة الأميرية بل قد يوئب وما أثبته الأقرب إلى المعنى والأظهر إن شاء الله. (*)