مع أن الوصف إنما يذكر لتمييز الموصوف، كما يقال يا أيها المكلفون المؤمنون، ويا أيها الرجال العقلاء تمييزا عن الكافرين والجهال، فنقول الوصف يذكر لا للتمييز بل لمجرد بيان أن فيه الوصف كما يقال الأنبياء المكرمون والملائكة المطهرون، مع أن كل نبي مكرم وكل ملك مطهر، وإنما يقال لبيان أن فيهم الإكرام والطهارة، ومثل هذا قولنا الله العظيم وزيد الطويل، فههنا ذكر لبيان أنهم مؤمنون.
المسألة الثالثة: إذ قال * (يا عبادي) * فهم يكونون عابدين فما الفائدة في الأمر بالعبادة بقوله فاعبدون؟ فنقول فيه فائدتان إحداهما: المداومة أي يا من عبدتموني في الماضي اعبدوني في المستقبل الثانية: الإخلاص أي يا من تعبدني أخلص العمل لي ولا تعبد غيري.
المسألة الرابعة: الفاء في قوله: * (فإياي) * تدل على أنه جواب لشرط فما ذلك؟ فنقول قوله: * (إن أرضي واسعة) * إشارة إلى عدم المانع من عبادته فكأنه قال إذا كان لا مانع من عبادتي فاعبدوني، وأما الفاء في قوله تعالى: * (فاعبدون) * فهو لترتيب المقتضى على المقتضى كما يقال هذا عالم فأكرموه فكذلك ههنا لما أعلم نفسه بقوله: * (فإياي) * وهو لنفسه يستحق العبادة قال فاعبدون.
المسألة الخامسة: قال العبد مثل هذا في قوله: * (إياك نعبد) * وقال عقيبه: * (وإياك نستعين) * والله تعالى وافقه في قوله: * (فإياي فاعبدون) * ولم يذكر الإعانة نقول بل هي مذكورة في قوله * (يا عبادي) * لأن المذكور بعبادي لما كان الشيطان مسدود السبيل عليه مسدود القبيل عنه كان في غاية الإعانة.
المسألة السادسة: قدم الله الإعانة وأخر العبد الاستعانة، قلنا لأن العبد فعله لغرض وكل فعل لغرض، فإن الغرض سابق على الفعل في الإدراك، وذلك لأن من يبني بيتا للسكنى يدخل في ذهنه أولا فائدة السكنى فيحمله على البناء، لكن الغرض في الوجود لا يكون إلا بعد فعل الواسطة، فنقول الاستعانة من العبد لغرض فهي سابقة في إدراكه، وأما الله تعالى فليس فعله لغرض فراعى ترتيب الوجود، فإن الإعانة قبل العبادة.
* (كل نفس ذآئقة الموت ثم إلينا ترجعون) *.
لما أمر الله تعالى المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان، فقال لهم إن ما تكرهون لا بد من وقوعه فإن كل نفس ذائقة الموت والموت مفرق الأحباب فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله فيجازيكم عليه، فإن إلى الله مرجعكم، وفيه وجه أرق وأدق، وهو أن الله تعالى قال: كل نفس إذا كانت غير متعلقة بغيرها فهي للموت، ثم إلى الله ترجع فلا تموت كما قال تعالى: * (لا يذوقون فيها الموت) * (الدخان: 56) إذا ثبت هذا فمن يريد ألا يذوق الموت لا يبقى مع نفسه فإن