المسألة الأولى: قدم التعذيب في الذكر على الرحمة مع أن رحمته سابقة كما قال عليه السلام حاكيا عنه " سبقت رحمتي غضبي " فنقول ذلك لوجهين أحدهما: أن السابق ذكر الكفار فذكر العذاب لسبق ذكر مستحقيه بحكم الإيعاد وعقبه بالرحمة، وكما ذكر، بعد إثبات الأصل الأول وهو التوحيد - التهديد بقوله: * (وإن تكذبوا فقد كذب أمم) * (العنكبوت: 18) وأهلكوا بالتكذيب كذلك ذكر بعد إثبات الأصل الآخر التهديد بذكر التعذيب، وذكر الرحمة وقع تبعا لئلا يكون العذاب مذكورا وحده وهذا يحقق قوله: (سبقت رحمتي غضبي) وذلك لأن الله حيث كان المقصود ذكر العذاب لم يمحضه في الذكر بل ذكر الرحمة معه.
المسألة الثانية: إذا كان ذكر هذا لتخويف العاصي وتفريح المؤمن فلو قال يعذب الكافر ويرحم المؤمن لكان أدخل في تحصيل المقصود وقوله: * (يعذب من يشاء) * لا يزجر الكافر لجواز أن يقول لعلي لا أكون ممن يشاء الله عذابه، فنقول: هذا أبلغ في التخويف، وذلك لأن الله أثبت بهذا إنفاذ مشيئته إذا أراد تعذيب شخص فلا يمنعه منه مانع، ثم كان من المعلوم للعباد بحكم الوعد والإيعاد أنه شاء تعذيب أهل العناد، فلزم منه الخوف التام بخلاف ما لو قال يعذب العاصي، فإنه لا يدل على كمال مشيئته، لأنه لا يفيد أنه لو شاء عذاب المؤمن لعذبه، فإذا لم يفد هذا فيقول الكافر إذا لم يحصل مراده في تلك الصورة يمكن أن يحصل في صورة أخرى، ولنضرب له مثلا فنقول: إذا قيل إن الملك يقدر على ضرب كل من في بلاده وقال من خالفني أضربه يحصل الخوف التام لمن يخالفه، وإذا قيل إنه قادر على ضرب المخالفين ولا يقدر على ضرب المطيعين، فإذا قال من خالفني أضربه يقع في وهم المخالف أنه لا يقدر على ضرب فلان المطيع، فلا يقدر علي أيضا لكوني مثله، وفي هذا فائدة أخرى وهو الخوف العام والرجاء العام، لأن الأمن الكلي من الله يوجب الجراءة فيفضي إلى صيرورة المطيع عاصيا.
المسألة الثالثة: قال: * (ثم إليه تقلبون) * مع أن هذه المسألة قد سبق إثباتها وتقريرها فلم أعادها؟ فنقول لما ذكر الله التعذيب والرحمة وهما قد يكونان عاجلين، فقال تعالى: فإن تأخر عنكم ذلك فلا تظنوا أنه فات، فإن إليه إيابكم وعليه حسابكم وعنده يدخر ثوابكم وعقابكم، ولهذا قال بعدها * (وما أنتم بمعجزين) * يعني لا تفوتون الله بل الانقلاب إليه ولا يمكن الإنفلات منه، وفي تفسير هذه الآية لطائف إحداها: هي إعجاز المعذب عن التعذيب إما بالهرب منه أو الثبات له والمقاومة معه للدفع، وذكر الله القسمين فقال: * (وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء) * يعني بالهرب لو صعدتم إلى محل السماك في السماء أو هبطتم إلى موضع السموك في الماء لا تخرجون من قبضة قدرة الله فلا مطمع في الإعجاز بالهرب، وأما بالثبات فكذلك لأن الإعجاز إما أن يكون بالاستناد إلى ركن شديد يشفع ولا يمكن للمعذب مخالفته فيفوته المعذب ويعجز عنه أو بالانتصار بقوم يقوم معه بالدفع وكلاهما محال، فإنكم مالكم من دون الله ولي يشفع ولا نصير يدفع فلا إعجاز