غافلا لا يكون مهيبا عظيما كما يكون مع ذلك خبيرا يقظا لا تخفى عليه أمور الممالك والمماليك فقال: * (ذلك عالم الغيب والشهادة) * ولما ذكر من قبل عالم الأشباح بقوله: * (خلق السماوات) * وعالم الأرواح بقوله: * (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض) * قال: * (عالم الغيب) * يعلم ما في الأرواح * (والشهادة) * يعلم ما في الأجسام أو نقول قال: * (عالم الغيب) * إشارة إلى ما لم يكن بعد * (والشهادة) * إشارة إلى ما وجد وكان وقدم العلم بالغيب لأنه أقوى وأشد إنباء عن كمال العلم، ثم قال تعالى: * (العزيز الرحيم) * لما بين أنه عالم ذكر أنه عزيز قادر على الانتقام من الكفرة رحيم واسع الرحمة على البررة، ثم قال تعالى: * (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) * لما بين الدليل الدال على الوحدانية من الآفاق بقوله: * (خلق السماوات والأرض وما بينهما) * وأتمه بتوابعه ومكملاته ذكر الدليل الدال عليها من الأنفس بقوله: * (الذي أحسن كل شيء) * يعني أحسن كل شيء مما ذكره وبين أن الذي بين السماوات والأرض خلقه وهو كذلك لأنك إذا نظرت إلى الأشياء رأيتها على ما ينبغي صلابة الأرض للنبات وسلاسة الهواء للاستنشاق وقبول الانشقاق لسهولة الاستطراق وسيلان الماء لنقدر عليه في كل موضع وحركة النار إلى فوق، لأنها لو كانت مثل الماء تتحرك يمنة ويسرة لاحترق العالم فخلقت طالبة لجهة فوق حيث لا شيء هناك يقبل الاحتراق وقوله: * (وبدأ خلق الإنسان من طين) * قيل المراد آدم عليه السلام فإنه خلق من طين، ويمكن أن يقال بأن الطين ماء وتراب مجتمعان والآدمي أصله منى والمنى أصله غذاء، والأغذية إما حيوانية، وإما نباتية، والحيوانية بالآخرة ترجع إلى النباتية والنبات وجوده بالماء والتراب الذي هو طين.
* (ثم جعل نسله من سلالة من مآء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون) *.
وقوله تعالى: * (ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين) * على التفسير الأول ظاهر لأن آدم كان من طين ونسله من سلالة من ماء مهين هو النطفة، وعلى التفسير الثاني هو أن أصله من الطين، ثم يوجد من ذلك الأصل سلالة هي من ماء مهين، فإن قال قائل التفسير الثاني غير صحيح لأن قوله: * (بدأ خلق الإنسان) * ثم جعل نسله دليل على أن جعل النسل بعد خلق الإنسان من طين فنقول لا بل التفسير الثاني أقرب إلى الترتيب اللفظي فإنه تعالى بدأ بذكر الأمر من الابتداء في خلق الإنسان فقال بدأه من طين ثم جعله سلالة ثم سواه ونفخ فيه من روحه وعلى ما ذكرتم