ثم قال تعالى: * (ولقد جاءهم موسى بالبينات) * كما قال في عاد وثمود: * (وكانوا مستبصرين) * أي بالرسل، ثم قال تعالى: * (فاستكبروا) * أي عن عبادة الله وقوله: * (في الأرض) * إشارة إلى ما يوضح قلة عقلهم في استكبارهم، وذلك لأن من في الأرض أضعف أقسام المكلفين، ومن في السماء أقواهم، ثم إن من في السماء لا يستكبر على الله وعن عبادته، فكيف (يستكبر) من في الأرض. ثم قال تعالى: * (وما كانوا سابقين) * أي ما كانوا يفوتون الله لأنا بينا في قوله تعالى: * (وما أنتم بمعجزين في الأرض) * (العنكبوت: 22) أن المراد أن أقطار الأرض في قبضة قدرة الله.
* (فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الارض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) *.
ذكر الله أربعة أشياء العذاب بالحاصب، وقيل إنه كان بحجارة محماة يقع على واحد منهم وينفذ من الجانب الآخر، وفيه إشارة إلى النار والعذاب بالصيحة وهو هواء متموج، فإن الصوت قيل سببه تموج الهواء ووصوله إلى الغشاء الذي على منفذ الأذن وهو الصماخ فيقرعه فيحس، والعذاب بالخسف وهو الغمر في التراب، والعذاب بالإغراق وهو بالماء. فحصل العذاب بالعناصر الأربعة والإنسان مركب منها وبها قوامه وبسببها بقاؤه ودوامه، فإذا أراد الله هلاك الإنسان جعل ما منه وجوده سببا لعدمه، وما به بقاؤه سببا لفنائه، ثم قال تعالى: * (وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) * يعني لم يظلمهم بالهلاك، وإنما هم ظلموا أنفسهم بالإشراك وفيه وجه آخر ألطف وهو أن الله ما كان يظلمهم أي ما كان يضعهم في غير موضعهم فإن موضعهم الكرامة كما قال تعالى: * (ولقد كرمنا بني آدم) * (الإسراء: 70) لكنهم ظلموا أنفسهم حيث وضعوها مع شرفهم في عبادة الوثن مع خسته.
* (مثل الذين اتخذوا من دون الله أوليآء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون) *.
لما بين الله تعالى أنه أهلك من أشرك عاجلا وعذب من كذب آجلا، ولم ينفعه في الدارين معبوده ولم يدفع ذلك عنه ركوعه وسجوده، مثل اتخاذه ذلك معبودا باتخاذ العنكبوت بيتا لا يجير آويا ولا يريح ثاويا، وفي الآية لطائف نذكرها في مسائل:
المسألة الأولى: ما الحكمة في اختيار هذا المثل من بين سائر الأمثال؟ فنقول فيه وجوه