فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشئ من سدر قليل * ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازى إلا الكفور " 17 " حيث لم يمنعهم من أكل ثمارها خوف ولا مرض، وقوله: * (واشكروا له) * بيان أيضا لكمال النعمة، فإن الشكر لا يطلب إلا على النعمة المعتبرة، ثم لما بين حالهم في مساكنهم وبساتينهم وأكلهم أتم بيان النعمة بأن بين أن لا غائلة عليه ولا تبعة في المآل في الدنيا، فقال: * (بلدة طيبة) * أي طاهرة عن المؤذيات لا حية فيها ولا عقرب ولا وباء ولا وخم، وقال: * (ورب غفور) * أي لا عقاب عليه ولا عذاب في الآخرة، فعند هذا بان كمال النعمة حيث كانت لذة حالية خالية عن المفسد المالية.
ثم إنه تعالى لما بين ما كان من جانبه ذكر ما كان من جانبهم فقال: * (فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشئ من سدر قليل، ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور) *.
فبين كمال ظلمهم بالإعراض بعض إبانة الآية كما قال تعالى: * (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها) * ثم بين كيفية الانتقام منهم كما قال: * (إنا من المجرمين منتقمون) * وكيفيته أنه تعالى أرسل عليهم سيلا غرق أموالهم وخرب دورهم، وفي العرم وجوه أحدها: أنه الجرذ الذي سبب خراب السكر، وذلك من حيث إن بلقيس كانت قد عمدت إلى جبال بينها شعب فسدت الشعب حتى كانت مياه الأمطار والعيون تجتمع فيها وتصير كالبحر وجعلت لها أبوابا ثلاثة مرتبة بعضها فوق بعض وكانت الأبواب يفتح بعضها بعد بعض. فنقب الجرذ السكر، وخرب السكر بسببه وانقلب البحر عليهم وثانيها: أن العرب اسم السكر وهو جمع العرمة وهي الحجارة (ثالثها) اسم للوادي الذي خرج منه الماء وقوله: * (وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط) * بين به دوام الخراب، وذلك لأن البساتين التي فيها الناس يكون فيها الفواكه الطيبة بسبب العمارة فإذا تركت سنين تصير كالغيضة والأجمة تلتف الأشجار بعضها ببعض وتنبت المفسدات فيها فتقل الثمار وتكثر الأشجار، والخمط كل شجرة لها شوك أو كل شجرة ثمرتها مرة، أو كل شجرة ثمرتها لا تؤكل، والأثل نوع من الطرفاء ولا يكون عليه ثمرة إلا في بعض الأوقات، يكون عليه شيء كالعفص أو أصغر منه في طعمه وطبعه، والسدر معروف وقال فيه قليل لأنه كان أحسن أشجارهم فقلله الله، ثم بين الله أن ذلك كان مجازاة لهم على كفرانهم فقال: * (ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي) * أي لا نجازي بذلك الجزاء * (إلا الكفور) * قال بعضهم المجازاة تقال في النقمة والجزاء