أكثر، حتى يستقر أحد الأقوال فيها، ثم يثبتها أبو يوسف في الأصول، حتى أثبت الأصول كلها، وهذا يكون أولى وأصوب، وإلى الحق أقرب، والقلوب إليه أسكن، وبه أطيب، من مذهب من انفرد، فوضع مذهبه بنفسه، ويرجع فيه إلى رأيه، ا ه.
ومن هذا يظهر أن أبا حنيفة لم يكن يحمل أصحابه على قبول ما يلقيه عليهم. بل كان يحملهم على إبداء ما عندهم، إلى أن يتضح عندهم الامر، كوضح الصبح، فيقبلون ما وضح دليله، وينبذون ما سقطت حجته، وكان يقول ما معناه: لا يحل لاحد أن يقول بقولنا، حتى يعلم من أين قلنا، وهذا هو سر ظهور مذهبه في الخافقين، ظهورا لم يعهد له مثيل، وهو السبب الأصلي لبراعة المتفقهين عليه، وكثرتهم، إذ طريقته تلك هي الطريقة المثلى، في التدريب على الفقه، وتنشئة الناشئين، ولذلك يقول ابن حجر المكي في " خيرات الحسان " ص 26: " قال بعض الأئمة: لم يظهر لاحد من أئمة الاسلام المشهورين، مثل ما ظهر لأبي حنيفة، من الأصحاب.
والتلاميذ، ولم ينتفع العلماء، وجميع الناس، بمثل ما انتفعوا به. وبأصحابه في تفسير الأحاديث المشتبهة، والمسائل المستنبطة، والنوازل، والقضاء، والاحكام "، ا ه.
وقال محمد بن إسحاق النديم في " الفهرست ": و " العلم برا وبحرا، وشرقا وغربا، بعدا وقربا تدوينه رضي الله عنه "، ا ه، وقال المجد بن الأثير في " جامع الأصول " ما معناه: لو لم يكن لله في ذلك سر خفى، لما كان شطر هذه الأمة من أقدم عهد إلى يومنا هذا، يعبدون الله سبحانه على مذهب هذا الامام الجليل، وليس أحد من هؤلاء الثلاثة على مذهب هذا الامام، حتى يرمى بالتحزب له، رضي الله عنه.
والحاصل: أن من خصائص هذا المذاهب كون تدوين المسائل فيه على الشورى، والمناظرات المديدة، وتلقى الاحكام فيه من جماعة، عن جماعة، إلى أول نبع غزير فياض في الفقه، في عهد جمهرة فقهاء الصحابة، واستمرارا سعى الجماعة في تبيين أحكام النوازل، جماعة بعد جماعة، إلى ما شاء الله سبحانه كذلك، بحيث يتمشى المذهب مع حاجات العصور، ومقتضيات الرقي الحضاري في البشر.
ولذا ترى ابن خلدون يقول عن مذهب مالك ما لفظه: وأيضا فالبداوة كانت غالبة على المغرب. والأندلس، ولم يكونوا يعاونون الحضارة التي لأهل العراق (1)، فكانوا إلى أهل الحجاز أميل، لمناسبة البداوة، ولهذا لم يزل المذهب المالكي غضا عندهم، ولم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها، ا ه. " مقدمة - علم الفقه "، فإذا كان مذهب مالك الذي عاش الأندلس تحت حكمه طوال قرون، هكذا في نظر ابن خلدون، فما ظنك بما سواه من المذاهب التي لم تعاشر الحضارة في أحكاما مدة طويلة؟! وأما قراءة أبي حنيفة، فهي قراءة عاصم المنتشرة في الآفاق، وللقرآن الكريم المنزلة