حسود حسدا مذموما، وإن كان نزعه التقوى عن إزالة ذلك فيعفى عنه ما يجده في نفسه من ارتياحه إلى زوال النعمة من محسوده مهما كان كاره لذلك من نفسه بعقله ودينه. وهذا التفصيل يشير إليه ما أخرجه عبد الرزاق مرفوعا: ثلاث لا يسلم منهن أحد: الطيرة والظن والحسد. قيل: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: إذا تطيرت فلا ترجع وإذا ظننت فلا تحقق وإذا حسدت فلا تبغ وأخرج أبو نعيم كل ابن آدم حسود ولا يضر حاسدا حسده ما لم يتكلم باللسان أو يعمل باليد وفي معناه أحاديث لا تخلو عن مقال.
وفي الزواجر لابن حجر الهيثمي: إن الحسد مراتب: وهي إما محبة زوال نعمة الغير وإن لم تنتقل إلى الحاسد وهذا غاية الحسد، أو مع انتقالها إليه أو انتقال مثلها إليه، وإلا أحب زوالها لئلا يتميز عليه أو لا مع محبة زوالها، وهذا الأخير هو المعفو عنه من الحسد إن كان في الدنيا والمطلوب إن كان في الدين انتهى، وهذا القسم الأخير يسمى غيرة، فإن كان في الدين فهو المطلوب وعليه حمل ما رواه الشيخان من حديث ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار، والمراد أنه يغار ممن اتصف بهاتين الصفتين فيقتدي به محبة للسرور في هذا المسلك ولعل تسميته حسدا مجازا. والحديث دليل على تحريم الحسد، وأنه من الكبائر. ونسبة الأكل إليه مجاز من باب الاستعارة. وقوله كما تأكل النار الحطب تحقيق لذهاب الحسنات بالحسد كما يذهب الحطب بالنار ويتلاشى جرمه.
واعلم أن دواء الحسد الذي يزيله عن القلب معرفة الحاسد أنه لا يضر بحسده المحسود في الدين ولا في الدنيا وأنه يعود وبال حسده عليه في الدارين إذ لا تزول نعمة بحسد قط، وإلا لم تبق لله نعمة على أحد حتى نعمة الايمان لان الكفار يحبون زواله عن المؤمنين، بل المحسود يتمتع بحسنات الحاسد لأنه مظلوم من جهة، سيما إذا أطلق لسانه بالانتقاص والغيبة وهتك الستر وغيرها من أنواع الايذاء، فيلقى الله مفلسا من الحسنات محروما من نعمة الآخرة، كما حرم من نعمة سلامة الصدر وسكون القلب والاطمئنان في الدنيا، فإذا تأمل العاقل هذا عرف أنه جر لنفسه بالحسد كل غم ونكد في الدنيا والآخرة.
2 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): ليس الشديد بالصرعة) بضم الصاد المهملة وفتح الراء وبالعين المهملة على زنة همزة صيغة مبالغة أي كثير الصرع (إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب متفق عليه). المراد بالشديد هنا: شد القوة المعنوية وهي مجاهدة النفس وإمساكها عند الشر ومنازعتها للجوارح للانتقام ممن أغضبها، فإن النفس في حكم الأعداء الكثيرين، وغلبتها عما تشتهيه في حكم من هو شديد القوة في غلبة الجماعة الكثيرين فيما يريدونه منه. وفيه إشارة إلى أن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الذي يملك نفسه عند