قيل له: لا يجب ذلك، لأن الله تعالى لم ينص لنا على (وجوب) (1) قبول شهادة شاهدين بأعيانهما، ولم يحكم لهما بالعدالة، وإنما أمرنا في الجملة بقبول شهادة عدول عندنا، ومن في غالب ظننا أنهم عدول.
والظن قد يخطئ ويصيب، فلذلك لم يجز لنا القطع على غيبهما، ولو كان الله تعالى شهد لشاهدين بأعيانهما بالعدالة وصحة الشهادة - لقطعنا على غيبهما، وحكمنا بصدقهما، وأما الأمة فقد حكم الله تعالى بالعدالة وصحة الشهادة على من بعدها، على معنى: أنها تشتمل (على) (2) من هذه صفته، فمتى وجدناها مجتمعة (3) على شئ حكمنا بأنه حكم الله تعالى، لأن العدول الذين حكم الله بصحة شهادتهم قد قالت ذلك، وقولها صدق.
فإن قيل: ما أنكرت أن يكون الله تعالى إنما جعل الأمة شهداء في الآخرة لا في الدنيا حتى يكونوا عدولا، فيكونون عدولا في الآخرة، (4) ولا دلالة في الآية على: أنهم عدول في الدنيا.
قيل له: إن الله تعالى قد مدحهم وأثنى عليهم بذلك في الدنيا، فلو لا أنهم مستحقون لهذه الصفة في الدنيا ما جاز أن يوصفوا بها في الآخرة، لأن من لا يستحق في الدنيا صفة مدح وثواب، فغير جايز أن يستحقها في الآخرة.
وأيضا لما جعل للأمة في كونها شهداء على الناس كالنبي صلى الله عليه وسلم (وكونه شهيدا عليهم، ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم) (5) مستحقا لقبول الشهادة في الدنيا. وجب أن يكون كذلك حكم الأمة فيما يستحقونه من هذه الصفة.
ولو جاز أن يقال: إن الأمة شهداء في الآخرة، وليست شهداء في الدنيا - لجاز أن يقال مثله في النبي عليه السلام، إذ كان الله تعالى لم يفرق بين شهادتهما. وأيضا: فما لم يخصص وصفها (6) بذلك حالا دون حال اقتضى عموم الآية استحقاق هذه الصفة لها في سائر الأحوال.