تغني إذا جمعت، وعلى هذا ففي الكلام أمور كلها تشير إلى عظم الأمر أحدها: كم فإنه للتكثير ثانيها: لفظ الملك فإنه أشرف أجناس المخلوقات ثالثها: في السماوات فإنها إشارة إلى علو منزلتهم ودنو مرتبتهم من مقر السعادة رابعها: اجتماعهم على الأمر في قوله * (شفاعتهم) * وكل ذلك لبيان فساد قولهم إن الأصنام يشفعون أي كيف تشفع مع حقارتها وضعفها ودناءة منزلتها فإن الجماد أخس الأجناس والملائكة أشرفها وهم في أعلى السماوات ولا تقبل شفاعة الملائكة فكيف تقبل شفاعة الجمادات.
المسألة الثالثة: ما الفائدة في قوله تعالى: * (وكم من ملك) * بمعنى كثير من الملائكة مع أن كل من في السماوات منهم لا يملك الشفاعة؟ نقول المقصود الرد عليهم في قولهم هذه الأصنام تشفع، وذلك لا يحصل ببيان أن ملكا من الملائكة لا تقبل شفاعته فاكتفى بذكر الكثيرة، ولم يقل ما منهم أحد يملك الشفاعة لأنه أقرب إلى المنازعة فيه من قوله كثير مع أن المقصود حاصل به، ثم ههنا بحث وهو أن في بعض الصور يستعمل صيغة العموم والمراد الكثير، وفي البعض يستعمل الكثير والمراد الكل وكلاهما على طريقة واحد، وهو استقلال الباقي وعدم الاعتداد، ففي قوله تعالى: * (تدمر كل شيء) * (الأحقاف: 25) كأنه يجعل الخارج عن الحكم غير ملتفت إليه، وفي قوله تعالى: * (وكم من ملك) * وقوله * (بل أكثرهم لا يعلمون) * (النحل: 75) وقوله * (أكثرهم بهم مؤمنون) * (سبأ: 41) يجعل المخرج غير ملتفت إليه فيجعل كأنه ما أخرجه كالأمر الخارج عن الحكم كأنه ما خرج، وذلك يختلف باختلاف المقصود من الكلام، فإن كان الكلام مذكورا لأمر فيه يبالغ يستعمل الكل، مثاله يقال للملك كل الناس يدعون لك إذا كان الغرض بيان كثرة الدعاء له لا غير، وإن كان الكلام مذكورا لأمر خارج عنه لا يبالغ فيه لأن المقصود غيره فلا يستعمل الكل، مثاله إذا قال الملك لمن قال له اغتنم دعائي كثير من الناس يدعون لي، إشارة إلى عدم احتياجه إلى دعائه لا لبيان كثرة الدعاء له، فكذلك ههنا.
المسألة الرابعة: قال: * (لا تغني شفاعتهم) * ولم يقل لا يشفعون مع أن دعواهم أن هؤلاء شفعاؤنا لا أن شفاعتهم تنفع أو تغني وقال تعالى في مواضع أخرى * (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) * (البقرة: 255) فنفي الشفاعة بدون الإذن وقال: * (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع) * نفى الشفيع وههنا نفى الإغناء؟ نقول هم كانوا يقولون هؤلاء شفعاؤنا وكانوا يعتقدون نفع شفاعتهم، كما قال تعالى: * (ليقربونا إلى الله زلفى) * (الزمر: 3) ثم نقول نفي دعواهم يشتمل على فائدة عظيمة، أما نفي دعواهم لأنهم قالوا الأصنام تشفع لنا شفاعة مقربة مغنية فقال: * (لا تغني شفاعتهم) * بدليل أن شفاعة الملائكة لا تغني، وأما الفائدة فلأنه لما استثنى بقوله * (إلا من بعد أن يأذن الله) * أي فيشفع ولكن لا يكون فيه بيان أنها تقبل وتغني أو لا تقبل، فإذا قال: * (لا تغني شفاعتهم) * ثم قال: * (إلا من بعد أن يأذن الله) * فيكون معناه تغني فيحصل البشارة، لأنه تعالى قال: * (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون