لأن كيد المكيد لا ينفع قطعا، ولا يخفى على أحد، فلا يحتاج إلى بيان، لكن كيد الكائد يظن أنه ينفع فقال تعالى: ذلك لا ينفع، نقول كيد الشيطان إياهم على عبادة الأصنام وهم كانوا يظنون أنها تنفع، وأما كيدهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعلمون أنه لا ينفع في الآخرة وإنما طلبوا أن ينفعهم في الدنيا لا في الآخرة فالإشكال ينقلب على صاحب الوجه الأول ولا إشكال على الوجهين جميعا إذا تفكرت فيما قلناه.
* (وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون) *.
في اتصال الكلام وجهان أحدهما: متصل بقوله تعالى: * (فذرهم) * (الطور: 5) وذلك لأنه يدل على عدم جواز القتال، وقد قيل إنه نازل قبل شرع القتال، وحينئذ كأنه قال فذرهم ولا تذرهم مطلقا من غير قتال، بل لهم قبل يوم القيامة عذاب يوم بدر حيث تؤمر بقتالهم، فيكون بيانا وعدا ينسخ فذرهم بالعذاب يوم بدر ثانيهما: هو متصل بقوله تعالى: * (لا يغني) * (الطور: 46) وذلك لأنه لما بين أن كيدهم لا يغني عنهم قال ولا يقتصر على عدم الإغناء بل لهم مع أن كيدهم لا يغني ويل آخر وهو العذاب المعد لهم، ولو قال لا يغني عنهم كيدهم كان يوهم أنه لا ينفع ولكن لا يضر ولما قال مع ذلك * (وإن للذين ظلموا عذابا) * زال ذلك، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الذين ظلموا هم أهل مكة إن قلنا العذاب هو عذاب يوم بدر، وإن قلنا العذاب هو عذاب القبر فالذين ظلموا عام في كل ظالم.
المسألة الثانية: ما المراد من الظلم ههنا؟ نقول فيه وجوه الأول: هو كيدهم نبيهم، والثاني: عبادتهم الأوثان، والثالث: كفرهم وهذا مناسب للوجه الثاني.
المسألة الثالثة: دون ذلك، على قول أكثر المفسرين معناه قبل ويؤيده قوله تعالى: * (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر) * (السجدة: 21) ويحتمل وجهين آخرين أحدهما: دون ذلك، أي أقل من ذلك في الدوام والشدة يقال الضرب دون القتل في الإيلام، ولا شك أن عذاب الدنيا دون عذاب الآخرة على هذا المعنى، وعلى هذا ففيه فائدة التنبيه على عذاب الآخرة العظيم وذلك لأنه إذا قال عذابا دون ذلك أي قتلا وعذابا في القبر فيتفكر المتفكر ويقول ما يكون القتل دونه لا يكون إلا عظيما، فإن قيل فهذا المعنى لا يمكن أن يقال في قوله تعالى: * (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر) * قلنا نسلم ذلك ولكن لا مانع من أن يكون المراد ههنا هذا الثاني على طريقة قول القائل: تحت لجاجك مفاسد ودون غرضك متاعب، وبيانه هو أنهم لما عبدوا غير الله ظلموا أنفسهم حيث وضعوها في غير موضعها الذي خلقت له فقيل لهم إن لكم دون ذلك الظلم عذابا.
المسألة الرابعة: * (ذلك) * إشارة إلى ماذا؟ نقول الظاهر أنه إشارة إلى اليوم وفيه وجهان