كالحسن والقوة وغيرهما من الأوصاف المطلوبة من ذلك الشيء، والذي قبله فإما راجع إلى الأصل الذي منه وجد، أو إلى الفاعل الذي هو له أوجد، كم يقال في إناءين هذا من النحاس وهذا من الفضة، ويقال هذا عمل فلان، وهذا عمل فلان، فقال تعالى لا ترجيح فيما خلقتم منه لأنكم كلكم من ذكر وأنثى، ولا بالنظر إلى جاعلين لأنكم كلكم خلقكم الله، فإن كان بينكم تفاوت يكون بأمور تلحقكم وتحصل بعد وجودكم وأشرفها التقوى والقرب من الله تعالى.
ثم قال تعالى: * (وجعلناكم شعوبا وقبائل) * وفيه وجهان: أحدهما: * (جعلناكم شعوبا) * متفرقة لا يدري من يجمعكم كالعجم، وقبائل يجمعكم واحد معلوم كالعرب وبني إسرائيل وثانيهما: * (جعلناكم شعوبا) * داخلين في قبائل، فإن القبيلة تحتها الشعوب، وتحت الشعوب البطون وتحت البطون الأفخاذ، وتحت الأفخاذ الفصائل، وتحت الفضائل الأقارب، وذكر الأعم لأنه أذهب للافتخار، لأن لأمر الأعم منها يدخله فقراء وأغنياء كثيرة غير محصورة، وضعفاء وأقوياء كثيرة غير معدودة، ثم بين فائدة ذلك وهي التعارف وفيه وجهان: أحدهما: أن فائدة ذلك التناصر لا التفاخر وثانيهما: أن فائدته التعارف لا التناكر، واللمز والسخرية والغيبة تفضي إلى التناكر لا إلى التعارف وفيه معان لطيفة الأولى: قال تعالى: * (إنا خلقناكم) * وقال: * (وجعلناكم) * لأن الخلق أصل تفرع عليه الجعل * (شعوبا) * فإن الأول هو الخلق والإيجاد، ثم الاتصاف بما اتصفوا به، لكن الجعل شعوبا للتعارف والخلق للعبادة كما قال تعالى: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) واعتبار الأصل متقدم على اعتبار الفرع، فاعلم أن النسب يعتبر بعد اعتبار العبادة كما أن الجعل شعوبا يتحقق بعد ما يتحقق الخلق، فإن كان فيكم عبادة تعتبر فيكم أنسابكم وإلا فلا الثانية: قوله تعالى: * (خلقناكم، وجعلناكم) * إشارة إلى عدم جواز الافتخار لأن ذلك ليس لسعيكم ولا قدرة لكم على شيء من ذلك، فكيف تفتخرون بما لا مدخل لكم فيه؟ فإن قيل الهداية والضلال كذلك لقوله تعالى: * (إنا هديناه السبيل) * (الإنسان: 3) * (نهدي به من نشاء) * (الشورى: 52) فنقول أثبت الله لنا فيه كسبا مبنيا على فعل، كم قال الله تعالى: * (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) *.
ثم قال تعالى: * (وما تشاءون إلا أن يشاء الله) * وأما في النسب فلا الثالثة: قوله تعالى: * (لتعارفوا) * إشارة إلى قياس خفي، وبيانه هو أنه تعالى قال: إنكم جعلتم قبائل لتعارفوا وأنتم إذا كنتم أقرب إلى شريف تفتخرون به فخلقكم لتعرفوا ربكم، فإذا كنتم أقرب منه وهو أشرف الموجودات كان الأحق بالافتخار هناك من الكل الافتخار بذلك الرابعة: فيه إرشاد إلى برهان يدل على أن الافتخار ليس بالأنساب، وذلك لأن القبائل للتعارف بسبب الانتساب إلى شخص فإن كان ذلك الشخص شريفا صح الافتخار في ظنكم، وإن لم يكن شريفا لم يصح، فشرف ذلك الرجل الذي تفتخرون به هو بانتسابه إلى فصيلة أو باكتساب فضيلة، فإن كان بالانتساب لزم الانتهاء، وإن كان بالاكتساب فالدين الفقيه الكريم المحسن صار مثل من يفتخر به المفتخر، فكيف