له ظهور بالأمر القلبي، إذ لا اطلاع على ما في القلوب لأحد إلا لله تعالى، ولا يظهر بالأفعال لأن الأمر قد يترك إما لنسيان أو سهو، فلا يعلم حال التارك والمرتكب أنه مخطئ أو متعمد، وأما الكلام فإنه حصول العلم بما عليه حال المتكلم، فالدخول في الإيمان والخروج منه يظهر بالكلام فتخصيص الفسوق بالأمر القولي أقرب، وأما العصيان فترك الأمر وهو بالفعل أليق، فإذا علم هذا ففيه ترتيب في غاية الحسن، وهو أنه تعالى كره إليكم الكفر وهو الأمر الأعظم كما قال تعالى: * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13).
ثم قال تعالى: * (والفسوق) * يعني ما يظهر لسانكم أيضا، ثم قال: * (والعصيان) * وهو دون الكل ولم يترك عليكم الأمر الأدنى وهو العصيان، وقال بعض الناس الكفر ظاهر والفسوق هو الكبيرة، والعصيان هو الصغيرة، وما ذكرناه أقوى.
ثم قال تعالى: * (أولئك هم الراشدون) *.
خطابا مع النبي صلى الله عليه وسلم وفيه معنى لطيف: وهو أن الله تعالى في أول الأمر قال: * (واعلموا أن فيكم رسول الله) * أي هو مرشد لكم فخطاب المؤمنين للتنبيه على شفقته بالمؤمنين، فقال في الأول كفى النبي مرشدا لكم ما تسترشدونه فأشفق عليهم وأرشدهم، وعلى هذا قوله * (الراشدون) * أي الموافقون للرشد يأخذون ما يأتيهم وينتهون عما ينهاهم.
ثم قال تعالى * (فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: نصب فضلا لأجل أمور، إما لكونه مفعولا له، وفيه وجهان أحدهما: أن العامل فيه هو الفعل الذي في قوله * (الراشدون) * فإن قيل: كيف يجوز أن يكون فضل الله الذي هو فعل الله مفعولا له بالنسبة إلى الرشد الذي هو فعل العبد؟ نقول لما كان الرشد توفيقا من الله كان كأنه فعل الله فكأنه تعالى أرشدهم فضلا، أي يكون متفضلا عليهم منعما في حقهم والوجه الثاني: هو أن العامل فيه هو قوله * (حبب إليكم الإيمان... وكره إليكم الكفر) * (الحجرات: 7) فضلا وقوله * (أولئك هم الراشدون) * (الحجرات: 7) جملة اعترضت بين الكلامين أو يكون العامل فعلا مقدرا، فكأنه قال تعالى جرى ذلك فضلا من الله، وإما لكونه مصدرا، وفيه وجهان أحدهما: أن يكون مصدرا من غير اللفظ ولأن الرشد فضل فكأنه قال أولئك هم الراشدون رشدا وثانيهما: هو أن يكون مصدرا لفعل مضمر، كأنه قال حبب إليكم الإيمان وكره إليكم الكفر فأفضل فضلا وأنعم نعمة، والقول بكونه منصوبا على أنه مفعول مطلق وهو المصدر، أو مفعول له قول الزمخشري، وإما أن يكون فضلا مفعولا به، والفعل مضمرا دل عليه قوله تعالى: * (أولئك هم الراشدون) * أي يبتغون فضلا من الله ونعمة.