اختلى بنفسه ورأى منامه ما رأى * (وما ينطق عن الهوى) * الآن حيث أرسل إليكم وجعل رسولا شاهدا عليكم، فلم يكن أولا ضالا ولا غاويا، وصار الآن منقذا من الضلالة ومرشدا وهاديا. وأما على ما ذكرت أن تقديره كيف يضل وهو لا ينطق عن الهوى فلا توافقه الصيغة؟ نقول بلى، وبيانه أن الله تعالى يصون من يريد إرساله في صغره عن الكفر، والمعايب القبيحة كالسرقة والزنا واعتياد الكذب، فقال تعالى: * (ما ضل) * في صغره، لأنه لا ينطق عن الهوى، وأحسن ما يقال في تفسير الهوى أنها المحبة، لكن من النفس يقال هويته بمعنى أحببته لكن الحروف التي في هوى تدل على الدنو والنزول والسقوط ومنه الهاوية، فالنفس إذا كانت دنيئة، وتركت المعالي وتعلقت بالسفاسف فقد هوت فاختص الهوى بالنفس الأمارة بالسوء، ولو قلت أهواه بقلبي لزال ما فيه من السفالة، لكن الاستعمال بعد استبعاد استعمال القرآن حيث لم يستعمل الهوى إلا في المواضع الذي يخالف المحبة، فإنها مستعملة في موضع المدح، والذي يدل على ما ذكرنا قوله تعالى: * (فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا) * إلى قوله * (ونهى النفس عن الهوى) * (النازعات: 37 - 40) إشارة إلى علو مرتبة النفس.
* (إن هو إلا وحى يوحى) *.
ثم قال تعالى: * (إن هو إلا وحي يوحى) * بكلمة البيان، وذلك لأنه تعالى لما قال: * (وما ينطق عن الهوى) * (النجم: 3) كأن قائلا قال: فبماذا ينطق أعن الدليل أو الاجتهاد؟ فقال لا، وإنما ينطق عن الله بالوحي، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: * (إن) * استعملت مكان ما للنفي، كما استعملت ما للشرط مكان إن، قال تعالى: * (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها) * (البقرة: 106) والمشابهة بينهما من حيث اللفظ والمعنى، أما اللفظ فلأن إن من الهمزة والنون، وما من الميم والألف، والألف كالهمزة والنون كالميم، أما الأول: فبدليل جواز القلب، وأما الثاني: فبدليل جواز الإدغام ووجوبه، وأما المعنى فلأن إن تدل على النفي من وجه، وعلى الإثبات من وجه، ولكن دلالتها على النفي أقوى وأبلغ، لأن الشرط والجزاء في صورة استعمال لفظة إن يجب أن يكون في الحالة معدوما إذا كان المقصود الحث أو المنع، تقول إن تحسن فلك الثواب، وإن تسيء فلك العذاب، وإن كان المراد بيان حال القسمين المشكوك فيهما كقولك: إن كان هذا الفص زجاجا فقيمته نصف، وإن كان جوهرا فقيمته ألف، فههنا وجود شيء منهما غير معلوم وعدم العلم حاصل، وعدم العلم ههنا كعدم الحصول في الحث والمنع، فلا بد في صور استعمال إن عدم، إما في الأمر، وإما في العلم، وإما الوجود فذلك عند وجود الشرط في بيان الحال، ولهذا قال النحاة: لا يحسن أن يقال إن احمر البسر آتيك، لأن ذلك أمر سيوجد لا محالة، وجوزوا استعمال إن فيما لا يوجد أصلا، يقال في قطع الرجاء