الأغلب أنه ما جاءه الوحي إلا بعد الأربعين، وهكذا كان الأمر في حق رسولنا صلى الله عليه وسلم ويروى أن عمر بن عبد العزيز لما بلغ أربعين سنة كان يقول: اللهم أوزعني أن أشكر نعمتك إلي تمام الدعاء، وروي أنه جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يؤمر الحافظان أن أرفقا بعبدي من حداثة سنه، حتى إذا بلغ الأربعين قيل احفظا وحققا " فكان راوي هذا الحديث إذا ذكر هذا الحديث بكى حتى تبتل لحيته رواه القاضي في " التفسير ".
المسألة الثانية: اعلم أن قوله * (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة) * يدل على أن الإنسان كالمحتاج إلى مراعاة الوالدين له إلى قريب من هذه المدة، وذلك لأن العقل كالناقص، فلا بد له من رعاية الأبوين على رعاية المصالح ودفع الآفات، وفيه تنبيه على أن نعم الوالدين على الولد بعد دخوله في الوجود تمتد إلى هذه المدة الطويلة، وذلك يدل على أن نعم الوالدين كأنه يخرج عن وسع الإنسان مكافأتهما إلا بالدعاء والذكر الجميل.
المسألة الثالثة: حكى الواحدي عن ابن عباس وقوم كثير من متأخري المفسرين ومتقدميهم أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قالوا والدليل عليه أن الله تعالى قد وقت الحمل والفصال ههنا بمقدار يعلم أنه قد ينقص وقد يزيد عنه بسبب اختلاف الناس في هذه الأحوال فوجب أن يكون المقصود منه شخصا واحدا حتى يقال إن هذا التقدير إخبار عن حاله فيمكن أن يكون أبو بكر كان حمله وفصاله هذا القدر.
ثم قال تعالى في صفة ذلك الإنسان * (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي) * ومعلوم أنه ليس كل إنسان يقول هذا القول، فوجب أن يكون المراد من هذه الآية إنسانا معينا قال هذا القول، وأما أبو بكر فقد قال هذا القول في قريب من هذا السن، لأنه كان أقل سنا من النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين وشئ، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث عند الأربعين وكان أبو بكر قريبا من الأربعين وهو قد صدق النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به، فثبت بما ذكرناه أن هذه الآيات صالحة لأن يكون المراد منها أبو بكر، وإذا ثبت القول بهذه الصلاحية فنقول: ندعي أنه هو المراد من هذه الآية، ويدل عليه أنه تعالى قال في آخر هذه الآية * (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة) * وهذا يدل على أن المراد من هذه الآية أفضل الخلق لأن الذي يتقبل الله عنه أحسن أعماله ويتجاوز عن كل سيئاته يجب أن يكون من أفاضل الخلق وأكابرهم، وأجمعت الأمة على أن أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أبو بكر وإما علي، ولا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأن هذه الآية إنما تليق بمن أتى بهذه الكلمة عند بلوغ الأشد وعند القرب من الأربعين، وعلي بن أبي طالب ما كان كذلك لأنه إنما آمن في زمان الصبا أو عند القرب من الصبا، فثبت أن المراد من هذه الآية هو أبو بكر والله أعلم.