ثم قال تعالى:
* (ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين) *.
أمر بالتوحيد، وفيه لطائف.
الأولى: قوله تعالى: * (ففروا) * ينبئ عن سرعة الإهلاك كأنه يقول الإهلاك والعذاب أسرع وأقرب من أن يحتمل الحال الإبطاء في الرجوع، فافزعوا إلى الله سريعا وفروا.
الثانية: قوله تعالى: * (إلى الله) * بيان المهروب إليه ولم يذكر الذي منه الهرب لأحد وجهين، إما لكونه معلوما وهو هول العذاب أو الشيطان الذي قال فيه: * (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) * (فاطر: 6) وإما ليكون عاما كأنه يقول: كل ما عدا الله عدوكم ففروا إليه من كل ما عداه، وبيانه وهو أن كل ما عداه فإنه يتلف عليك رأس مالك الذي هو العمر، ويفوت عليكم ما هو الحق والخير، ومتلف رأس المال مفوت الكمال عدو، وأما إذا فررت إلى الله وأقبلت على الله فهو يأخذ عمرك ولكن يرفع أمرك ويعطيك بقاء لا فناء معه.
والثالثة: الفاء للترتيب معناه إذا ثبت أن خالق الزوجين فرد ففروا إليه واتركوا غيره تركا مؤبدا. الرابعة: في تنوع الكلام فائدة وبيانها هو أن الله تعالى قال: * (والسماء بنيناها) * (الذاريات: 47) * (والأرض فرشناها) * (الذاريات: 48) * (ومن كل شيء خلقنا) * (الذاريات: 49) ثم جعل الكلام للنبي عليه السلام وقال: * (ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين) * ولم يقل ففروا إلينا، وذلك لأن لاختلاف الكلام تأثيرا، وكذلك لاختلاف المتكلمين تأثيرا، ولهذا يكثر الإنسان من النصائح مع ولده الذي حاد عن الجادة، ويجعل الكلام مختلفا، نوعا ترغيبا ونوعا ترهيبا، وتنبيها بالحكاية، ثم يقول لغيره تكلم معه لعل كلامك ينفع، لما في أذهان الناس أن اختلاف المتكلمين واختلاف الكلام كلاهما مؤثر، والله تعالى ذكر أنواعا من الكلام وكثيرا من الاستدلالات والآيات وذكر طرفا صالحا من الحكايات، ثم ذكر كلاما من متكلم آخر هو النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المفسرين من يقول تقديره فقل لهم ففروا وقوله: * (إني لكم منه نذير) * إشارة إلى الرسالة.
وفيه أيضا لطائف.
إحداها: أن الله تعالى بين عظمته بقوله: * (والسماء بنيناها) * * (والأرض فرشناها) * وهيبته بقوله: * (فنبذناهم في اليم) * (القصص: 40) وقوله تعالى: * (أرسلنا عليهم الريح العقيم) * (الذاريات: 48) وقوله: * (فأخذتهم الصاعقة) * (النساء: 153) وفيه إشارة إلى أنه تعالى إذا عذب قدر على أن يعذب بما به البقاء والوجود وهو التراب والماء والهواء والنار، فحكايات لوط تدل على أن التراب الذي منه الوجود والبقاء إذا أراد الله جعله سبب الفناء والماء كذلك في قوم فرعون والهواء في عاد والنار في ثمود، ولعل ترتيب الحكايات الأربع للترتيب الذي في العناصر الأربعة وقد ذكرنا في سورة العنكبوت شيئا منه، ثم إذا أبان عظمته وهيبته قال لرسوله عرفهم الحال وقل أنا رسول بتقديم الآيات وسرد الحكايات فلإردافه بذكر الرسول فائدة.
ثانيها: في الرسالة أمور ثلاثة المرسل والرسول والمرسل إليه وههنا ذكر الكل، فقوله: * (لكم) * إشارة إلى المرسل إليهم وقوله: * (منه) * إشارة إلى المرسل وقوله: * (نذير) * بيان للرسول، وقدم المرسل إليه في الذكر، لأن المرسل إليه أدخل في أمر الرسالة