الطائفتين حينئذ كنفسين.
ثم قال تعالى: * (فإن بغت إحداهما) * إشارة إلى نادرة أخرى وهي البغي، لأنه غير متوقع، فإن قيل كيف يصح في هذا الموضع كلمة * (إن) * مع أنها تستعمل في الشرط الذي لا يتوقع وقوعه، وبغي أحدهما عند الاقتتال لا بد منه، إذ كل واحد منهما لا يكون محسنا، فقوله * (إن) * تكون من قبيل قول القائل: إن طلعت الشمس، نقول فيه معنى لطيف، وهو أن الله تعالى يقول: الاقتتال بين طائفتين لا يكون إلا نادر الوقوع، وهو كما تظن كل طائفة أن الأخرى فيها الكفر والفساد، فالقتال واجب كما سبق في الليالي المظلمة، أو يقع لكل واحد أن القتال جائز بالاجتهاد، وهو خطأ، فقال تعالى: الاقتتال لا يقع إلا كذا، فإن بان لهما أو لأحدهما الخطأ واستمر عليه فهو نادر، وعند ذلك يكون قد بغى فقال: * (فإن بغت إحداهما على الأخرى) * يعني بعد استبانة الأمر، وحينئذ فقوله * (فإن بغت) * في غاية الحسن لأنه يفيد الندرة وقلة الوقوع، وفيه أيضا مباحث الأول: قال: * (فإن بغت) * ولم يقل فإن تبغ لما ذكرنا في قوله تعالى: * (اقتتلوا) * ولم يقل يقتتلوا الثاني: قال: * (حتى تفيء) * إشارة إلى أن القتال ليس جزاء للباغي كحد الشرب الذي يقام وإن ترك الشرب، بل القتال إلى حد الفيئة، فإن فاءت الفئة الباغية حرم قتالهم الثالث: هذا القتال لدفع الصائل، فيندرج فيه وذلك لأنه لما كانت الفيئة من إحداهما، فإن حصلت من الأخرى لا يوجد البغي الذي لأجله حل القتال الرابع: هذا دليل على أن المؤمن بالكبيرة لا يخرج عن كونه مؤمنا لأن الباغي جعله من إحدى الطائفتين وسماهما مؤمنين الخامس: قوله تعالى: * (إلى أمر الله) * يحتمل وجوها أحدها: إلى طاعة الرسول وأولي الأمر لقوله تعالى: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) * (النساء: 59). وثانيها: إلى أمر الله، أي إلى الصلح فإنه مأمور به يدل عليه قوله تعالى: * (وأصلحوا ذات بينكم) *، ثالثها: إلى أمر الله بالتقوى، فإن من خاف الله حق الخوف لا يبقى له عداوة إلا مع الشيطان كما قال تعالى: * (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) * (فاطر: 6)، السادس: لو قال قائل قد ذكرتم ما يدل على كون الشرط غير متوقع الوقوع وقلتم بأن القتال والبغي من المؤمن نادر، فإذن تكون الفئة متوقعة فكيف قال: * (فإن فاءت) *؟ نقول قول القائل لعبده: إن مت فأنت حر، مع أن الموت لا بد من وقوعه، لكن لما كان وقوعه بحيث يكون العبد محلا للعتق بأن يكون باقيا في ملكه حيا يعيش بعد وفاته غير معلوم فكذلك ههنا لما كان الواقع فيئتهم من تلقاء أنفسهم فلما لم يقع دل على تأكيد الأخذ بينهم فقال تعالى: * (فإن فاءت) * بقتالكم إياهم بعد اشتداد الأمر والتحام الحرب فأصلحوا، وفيه معنى لطيف وهو أنه تعالى أشار إلى أن من لم يخف الله وبغى لا يكون رجوعه بقتالكم إلا جبرا السابع: قال ههنا: * (فأصلحوا بينهما بالعدل) * ولم يذكر العدل في قوله * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا) * نقول لأن الإصلاح هناك بإزالة الاقتتال نفسه، وذلك يكون بالنصيحة أو التهديد والزجر والتعذيب، والإصلاح ههنا بإزالة آثار القتل