حسية، وفي الآخرة تزول الأوهام وتنجلي الأفهام فترى الأشياء لوجودها لا لتحيزها، واعلم أن من ينكر جواز رؤية الله تعالى، يلزمه أن ينكر جواز رؤية جبريل عليه السلام، وفيه إنكار الرسالة وهو كفر، وفيه ما يكاد أن يكون كفرا، وذلك لأن من شك في رؤية الله تعالى يقول لو كان الله تعالى جائز الرؤية لكان واجب الرؤية لأن حواسنا سليمة، والله تعالى ليس من وراء حجاب ولا هو في غاية البعد عنا لعدم كونه في جهة ولا مكان فلو جاز أن يرى ولا نراه، للزم القدح في المحسوسات المشاهدات، إذ يجوز حينئذ أن يكون عندنا جبل ولا نراه، فيقال لذلك القائل قد صح أن جبريل عليه السلام كان ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم وعنده غيره وهو يراه ولو وجب ما يجوز لرآه كل أحد، فإن قيل إن هناك حجابا نقول وجب أن يرى هناك حجابا فإن الحجاب لا يحجب إذا كان مرئيا على مذهبهم، ثم إن النصوص وردت أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده فجعل بصره في فؤاده أو رآه ببصره فجعل فؤاده في بصره، وكيف لا، وعلى مذهب أهل السنة الرؤية بالإرادة لا بقدرة العبد، فإذا حصل الله تعالى العلم بالشيء من طريق البصر كان رؤية، وإن حصله من طريق القلب كان معرفة والله قادر على أن يحصل العلم بخلق مدرك للمعلوم في البصر كما قدر على أن يحصله بخلق مدرك في القلب، والمسألة مختلف فيها بين الصحابة في الوقوع واختلاف الوقوع مما ينبئ عن الاتفاق على الجواز والمسألة مذكورة في الأصول فلا نطولها.
* (أفتمارونه على ما يرى) *.
أي كيف تجادلونه وتوردون شكوككم عليه مع أنه رأى ما رأى عين اليقين؟ ولا شك بعد الرؤية فهو جازم متيقن وأنتم تقولون أصابه الجن ويمكن أن يقال هو مؤكد للمعنى الذي تقدم، وذلك لأن من تيقن شيئا قد يكون بحيث لا يزول عن نفسه تشكيك وأكد بقوله تعالى:
* (ولقد رءاه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى) *.
وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لما رآه وهو على بسيط الأرض كان يحتمل أن يقال أنه من الجن احتمالا في غاية البعد، لما بينا أنه صلى الله عليه وسلم حصل له العلم الضروري بأنه ملك مرسل، واحتمال البعيد لا يقدح في الجزم واليقين، ألا ترى أنا إذا نمنا بالليل وانتبهنا بالنهار نجزم بأن البحار وقت نومنا ما نشفت ولا غارت، والجبال ما عدمت ولا سارت، مع احتمال ذلك فإن الله قادر على ذلك وقت نومنا، ويعيدها إلى ما كانت عليه في يومنا، فلما رآه عند سدرة المنتهى وهو فوق السماء السادسة لم يحتمل أن يكون هناك جن ولا إنس، فنفى ذلك الاحتمال أيضا فقال تعالى: * (أفتمارونه على ما يرى) * رأي العين، وكيف وهو