يختارون القتال لما فيه الضراب والطعان، مع أنه مفيد على الوجهين جميعا، إن غلبوا فالمال في الحال والثواب في المآل، وإن غلبوا فالشهادة والسعادة، فكيف حالهم إذا ضرب وجوههم وأدبارهم، وعلى هذا فيه لطيفة، وهي أن القتال في الحال إن أقدم المبارزة فربما يهزم الخصم ويسلم وجهه وقفاه، وإن لم يهزمه فالضرب على وجهه إن صبر وثبت وإن لم يثبت وانهزم، فإن فات القرن فقد سلم وجهه وقفاه وإن لم يفته فالضرب على قفاه لا غير، ويوم الوفاة لا نصرة له ولا مفر، فوجهه وظهره مضروب مطعون، فكيف يحترز عن الأذى ويختار العذاب الأكبر.
ثم قال تعالى * (ذلك بأنهم اتبعوا مآ أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم) *.
قوله تعالى: * (ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه) * وفيه لطيفة، وهي أن الله تعالى ذكر أمرين: ضرب الوجه، وضرب الأدبار، وذكر بعدهما أمرين آخرين: اتباع ما أسخط الله وكراهة رضوانه، فكأنه تعالى قابل الأمرين فقال: يضربون وجوههم حيث أقبلوا على سخط الله، فإن المتسع للشيء متوجه إليه، ويضربون أدبارهم لأنهم تولوا عما فيه رضا الله، فإن الكاره للشيء يتولى عنه، وما أسخط الله يحتمل وجوها الأول: إنكار الرسول عليه الصلاة والسلام ورضوانه الإقرار به والإسلام الثاني: الكفر هو ما أسخط الله والإيمان يرضيه يدل عليه قوله تعالى: * (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضاه لكم) * (الزمر: 7) وقال تعالى: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) * إلى أن قال: * (رضي الله عنهم ورضوا عنه) * (البينة: 7، 8) الثالث: ما أسخط الله تسويل الشيطان، ورضوان الله التعويل على البرهان والقرآن، فإن قيل هم ما كانوا يكرهون رضوان الله، بل كانوا يقولون: إن ما نحن عليه فيه رضوان الله، ولا نطلب إلا رضاء الله، وكيف لا والمشركون بإشراكهم كانوا يقولون: إنا نطلب رضاء الله. كما قالوا * (ليقربونا إلى الله زلفى) * (الزمر: 3) وقالوا * (فيشفعوا لنا) * (الأعراف: 53) فنقول معناه كرهوا ما فيه رضاء الله تعالى. وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال: * (ما أسخط الله) * ولم يقل: ما أرضى الله وذلك لأن رحمة الله سابقة، فله رحمة ثابتة وهي منشأ الرضوان، وغضب الله متأخر فهو يكون على ذنب، فقال: * (رضوانه) * لأنه وصف ثابت لله سابق، ولم يقل سخط الله، بل * (ما أسخط الله) * إشارة إلى أن السخط ليس ثبوته كثبوت الرضوان، ولهذا المعنى قال في اللعان في حق المرأة * (والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين) * (النور: 9) يقال: غضب الله مضافا لأن لعانه قد سبق مظهر الزنا بقوله وأيمانه، وقبله لم يكن لله غضب، ورضوان الله أمر يكون منه الفعل، وغضب الله أمر يكون من فعله، ولنضرب له مثالا: الكريم الذي رسخ الكرم في نفسه يحمله الكرم على الأفعال الحسنة، فإذا كثر من السيء الإساءة فغضبه لا لأمر يعود إليه، بل غضبه عليه يكون لإصلاح