لا يزول قط، إلا أنا لما نظرنا في هذه الدلالة ما وجدناها وافية بهذا الغرض، لأنهم إنما أقاموا الدلالة على حدوث الأجسام والأعراض، فلو قدروا على إقامة الدلالة على أن ما سوى الله تعالى إما متحيز أو قائم بالمتحيز لتم غرضهم، إلا أن الخصم يثبت موجودات لا متحيزة ولا قائمة بالمتحيز، فالدليل الذي يبين حدوث المتحيز والقائم بالمتحيز لا يبين حدوث كل ما سوى الله تعالى إلا بعد قيام الدلالة على نفي ذلك القسم الثالث، ولهم في نفي هذا القسم الثالث طريقان أحدهما: قولهم لا دليل عليه فوجب نفيه وهذه طريقة ركيكة بينا سقوطها في الكتب الكلامية والثاني: قولهم لو وجد موجود هكذا لكان مشاركا لله تعالى في نفي المكان والزمان والإمكان، ولو كان كذلك لصار مثلا لله تعالى وهو ضعيف، لاحتمال أن يقال إنهما وإن اشتركا في هذا السلب إلا أنه يتميز كل واحد منهما عن الآخر بماهية وحقيقة، وإذا كان كذلك ظهر أن دليلهم العقلي لا يفي بإثبات أن كل شيء هالك إلا وجهه، والذي يعتمد عليه في هذا الباب أن نقول ثبت أن صانع العالم واجب الوجود لذاته فيستحيل وجود موجود آخر واجب لذاته، وإلا لاشتركا في الوجوب وامتاز كل واحد منهما عن الآخر بخصوصيته، وما به المشاركة غير ما به الممايزة فيكون كل واحد منهما مركبا عما به المشاركة وعما به الممايزة وكل مركب ممكن مفتقر إلى جزئه، ثم إن الجزأين إن كانا واجبين كانا مشتركين في الوجوب ومتمايزين باعتبار آخر فيلزم تركب كل واحد منهما أيضا ويلزم التسلسل وهو محال، وإن لم يكونا واجبين فالمركب عنهما المفتقر إليهما أولى أن لا يكون واجبا، فثبت أن واجب الوجود واحد وأن كل ما عداه فهو ممكن وكل ممكن فلا بد له من مرجح، وافتقاره إلى المرجح، إما حال عدمه أو حال وجوده، فإن كان الأول ثبت أنه محدث، وإن كان الثاني فافتقار الموجود إلى المؤثر، إما حال حدوثه أو حال بقائه، والثاني باطل لأنه يلزم إيجاد الموجود وهو محال فثبت أن الافتقار لا يحصل إلا حال الحدوث، وثبت أن كل ما سوى الله تعالى محدث سواء كان متحيزا أو قائما بالمتحيز أو لا متحيزا ولا قائما بالمتحيز، فإن نقضت هذه الدلالة بذات الله وصفاته، فاعلم أن هناك فرقا قويا وإذا ثبت حدوث كل ما سواه وثبت أن كل ما كان محدثا كان قابلا للعدم ثبت بهذا البرهان الباهر أن كل شيء هالك إلا وجهه، بمعنى كونه قابلا للهلاك والعدم، ثم إن الذين فسروا الآية بذلك قالوا هذا أولى وذلك لأنه سبحانه حكم بكونها هالكة في الحال، وعلى ما قلناه فهي هالكة في الحال، وعلى ما قلتموه أنها ستهلك لا إنها هالكة في الحال، فكان قولنا أولى وأيضا فالممكن إذا وجد من حيث هو لم يكن مستحقا لا للوجود ولا للعدم من ذاته، فهذه الاستحقاقية مستحقة له من ذاته، وأما الوجود فوارد عليه من الخارج فالوجود له كالثوب المستعار له وهو من حيث هو هو كالإنسان الفقير الذي استعار ثوبا من رجل غني، فإن الفقير لا يخرج بسبب ذلك عن كونه فقيرا كذا الممكنات عارية عن الوجود من حيث هي هي، وإنما الوجود ثوب حصل لها بالعارية فصح أنها أبدا هالكة من حيث هي هي، أما الذين حملوه على أنها
(٢٣)