الله تعالى وعد رسوله الرد إلى معاد، قال: * (قل) * للمشركين * (ربي أعلم من جاء بالهدى) * يعني نفسه وما يستحقه من الثواب في المعاد والإعزاز بالإعادة إلى مكة * (ومن هو في ضلال مبين) * يعنيهم وما يستحقون من العقاب في معادهم، ثم قال لرسوله * (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك) * ففي كلمة إلا وجهان أحدهما: أنها للاستثناء، ثم قال صاحب " الكشاف ": هذا كلام محمول على المعنى كأنه قيل: (وما ألقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك) ويمكن أيضا إجراؤه على ظاهره، أي وما كنت ترجو إلا أن يرحمك الله برحمته فينعم عليك بذلك، أي ما كنت ترجو إلا على هذا والوجه الثاني: أن إلا بمعنى لكن للاستدراك، أي ولكن رحمة من ربك ألقى إليك ونظيره قوله: * (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك) * (القصص: 46) خصصك به، ثم إنه كلفه بأمور أحدها: كلفه بأن لا يكون مظاهرا للكفار فقال: * (فلا تكونن ظهيرا للكافرين) * وثانيها: أن قال: * (ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك) * الميل إلى المشركين، قال الضحاك وذلك حين دعوه إلى دين آبائه ليزوجوه ويقاسموه شطرا من مالهم، أي لا تلتفت إلى هؤلاء ولا تركن إلى قولهم فيصدوك عن اتباع آيات الله وثالثها: قوله: * (وادع إلى ربك) * أي: إلى دين ربك، وأراد التشدد في دعاء الكفار والمشركين، فلذلك قال: * (ولا تكونن من المشركين) * لأن من رضي بطريقتهم أو مال إليهم كان منهم ورابعها: قوله: * (ولا تدع مع الله إلها آخر) * وهذا وإن كان واجبا على الكل إلا أنه تعالى خاطبه به خصوصا لأجل التعظيم، فإن قيل الرسول كان معلوما منه أن لا يفعل شيئا من ذلك البتة فما فائدة هذا النهي؟ قلنا لعل الخطاب معه ولكن المراد غيره، ويجوز أن يكون المعنى لا تعتمد على غير الله ولا تتخذ غيره وكيلا في أمورك، فإن من وثق بغير الله تعالى فكأنه لم يكمل طريقه في التوحيد، ثم بين أنه لا إله إلا هو، أي لا نافع ولا ضار ولا معطي ولا مانع إلا هو، كقوله: * (رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا) * (المزمل: 9) فلا يجوز اتخاذ إله سواء، ثم قال: * (كل شيء هالك إلا وجهه) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في قوله: * (كل شيء هالك) * فمن الناس من فسر الهلاك بالعدم، والمعنى أن الله تعالى يعدم كل شيء سواه، ومنهم من فسر الهلاك بإخراجه عن كونه منتفعا به، إما بالإماتة أو بتفريق الأجزاء، وإن كانت أجزاؤه باقية، فإنه يقال هلك الثوب وهلك المتاع ولا يريدون به فناء أجزائه، بل خروجه عن كونه منتفعا به، ومنهم من قال: معنى كونه هالكا كونه قابلا للهلاك في ذاته، فإن كل ما عداه ممكن الوجود لذاته وكل ما كان ممكن الوجود كان قابلا للعدم فكان قابلا للهلاك، فأطلق عليه اسم الهلاك نظرا إلى هذا الوجه.
واعلم أن المتكلمين لما أرادوا إقامة الدلالة على أن كل شيء سوى الله تعالى يقبل العدم والهلاك قالوا: ثبت أن العالم محدث، وكل ما كان محدثا فإن حقيقته قابلة للعدم والوجود، وكل ما كان كذلك وجب أن يبقى على هذه الحالة أبدا، لأن الإمكان من لوازم الماهية، ولازم الماهية