ولم يعتبر حكم الأعم الأكثر مع تعلق الأحكام في الأصول بالأعم الأكثر، ألا ترى أن الحكم في كل من في دار الاسلام ودار الحرب يتعلق بالأعم الأكثر دون الأخص الأقل حتى صار من في دار الاسلام محظورا قتله، مع العلم بأن فيها من يستحق القتل من مرتد وملحد وحربي، ومن في دار الحرب يستباح قتله مع ما فيها من مسلم تاجر أو أسير؟
وكذلك سائر الأصول على هذا المنهاج يجري حكمها، ولم يكن للأكثر الأعم حكم في بطلان الصلاة مع العلم بأنهم على غير محاذاة الكعبة، ثبت أن الذي كلف كل واحد منهم في وقته هو ما عنده أنه جهة الكعبة وفي اجتهاده في الحال التي يسوغ الاجتهاد فيها، وأن لا إعادة على واحد منهم في الثاني.
فإن قيل: فأنت توجب الإعادة على من صلى باجتهاده مع إمكان المسألة عنها إذا تبين له خلافها.
قيل له: ليس هذا موضع الاجتهاد مع وجود من يسأله عنها، وإنما أجزنا فيما وصفنا صلاة من اجتهد في الحال التي يسوغ الاجتهاد فيها، وإذا وجد من يسأله عن جهة الكعبة لم يكلف فعل الصلاة باجتهاده وإنما كلف المسألة عنها. ويدل على ما ذكرنا أنه معلوم أنه من غاب عن حضرة النبي صلى الله عليه السلام فإنما يؤدي فرضه باجتهاده مع تجويزه أن يكون ذلك الفرض فيه نسخ. وقد ثبت أن أهل قبا كانوا يصلون إلى بيت المقدس، فأتاهم آت فأخبرهم أن القبلة قد حولت، فاستداروا في صلاتهم إلى الكعبة وقد كانوا قبل ذلك مستدبرين لها، لأن من استقبل بيت المقدس وهو بالمدينة فهو مستدبر للكعبة، ثم لم يؤمروا بالإعادة حين فعلوا بعض الصلاة إلى بيت المقدس مع ورود النسخ، إذ الأغلب أنهم ابتدأوا الصلاة بعد النسخ، لأن النسخ نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة، ثم سار المخبر إلى قبا بعد النسخ وبينهما نحو فرسخ. فهذا يدل على أن ابتداء صلاتهم كان بعد النسخ لامتناع أن يطول مكثهم في الصلاة هذه المدة، ولو كان ابتداؤها قبل النسخ كانت دلالته قائمة لأنهم فعلوا بعض الصلاة إلى بيت المقدس بعد النسخ.
فإن قيل: إنما جاز ذلك لأنهم ابتدأوها قبل النسخ وكان ذلك فرضهم ولم يكن عليهم فرض غيره! قيل له: وكذلك المجتهد فرضه ما أداه إليه اجتهاده ليس عليه فرض غيره.
فإن قيل: إذا تبين أنه صلى إلى غير الكعبة كان بمنزلة من اجتهد في حكم حادثة ثم وجد النص فيه، فيبطل اجتهاده مع النص! قيل له: ليس هذا كما ظننت، لأن النص في جهة الكعبة إنما هو في حال معاينتها أو العلم بها، وليست للصلاة جهة واحدة يتوجه إليها المصلي، بل سائر الجهات للمصلين على حسب اختلاف أحوالهم، فمن شاهد