إنما هو من قبل حكم الله تعالى بالأمن فيه وأن لا يقتل العائذ به واللاجئ إليه، وكذلك كان حكم الحرم منذ عهد إبراهيم عليه السلام إلى يومنا هذا.
وقد كانت العرب في الجاهلية تعتقد ذلك الحرم وتستعظم القتل فيه على ما كان بقي في أيديهم من شريعة إبراهيم عليه السلام، حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن حنبل قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا الأوزاعي قال:
حدثنا يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: لما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم هي حرام إلى يوم القيامة، لا يعضد شجرها ولا ينفذ صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشدها) فقال العباس: يا رسول الله إلا الأذخر فإنه لقبورنا وبيوتنا. فقال صلى الله عليه وسلم: (إلا الإذخر).
حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال:
حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد وطاوس، عن ابن عباس في هذه القصة: (ولا يختلى خلاها). وقال: (إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، لم تحل لأحد قبلي ولم تحل لي إلا ساعة من نهار).
وروى ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي شريح الكعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى حرم مكة ولم يحرمها الناس، فلا يسفكن فيها دم! وإن الله أحلها لي ساعة من نهار ولم يحلها للناس). وأخبر النبي عليه السلام أن الله حرمها يوم خلق السماوات والأرض وحظر فيها سفك الدماء، وأن حرمتها باقية إلى يوم القيامة. وأخبر أن من تحريمها تحريم صيدها وقطع الشجر والخلا.
فإن قال قائل: ما وجه استثنائه الإذخر من الحظر عند مسألة العباس وقد أطلق قبل ذلك حظر الجميع ومعلوم أن النسخ قبل التمكين من الفعل لا يجوز؟ قيل له: يجوز أن يكون الله تعالى خير نبيه صلى الله عليه وسلم في إباحة الأذخر وحظره عند سؤال من يسأله إباحته، كما قال تعالى: (فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم) [النور:
62] فخيره في الإذن عند المسألة. ومع ما حرم الله تعالى من حرمتها بالنص والتوقيف، فإن من آياتها ودلالاتها على توحيد الله تعالى واختصاصه لها ما يوجب تعظيمها ما يشاهد فيها من أمن الصيد فيها، وذلك أن سائر بقاع الحرم مشبهة لبقاع الأرض ويجتمع فيها الظبي والكلب فلا يهيج الكلب الصيد ولا ينفر منه، حتى إذا خرجا من الحرم عدا الكلب عليه وعاد هو إلى النفور والهرب. وذلك دلالة على توحيد الله سبحانه وتعالى، وعلى تفضيل إسماعيل عليه السلام وتعظيم شأنه. وقد روي عن جماعة من الصحابة حظر صيد