كذابا. فإنما كفر هذه الطائفة من هذا الوجه، وهو جهله بصدق الأنبياء عليهم السلام.
والأظهر من أمر الساحر الذي رأت الصحابة قتله من غير بحث منهم عن حاله ولا بيان لمعاني سحره أنه الساحر المذكور في قوله تعالى: (يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين) وهو الساحر الذي بدأنا بذكره عند ذكرنا ضروب السحر، وهو سحر أهل بابل في القديم، وعسى أن يكون هو الأغلب الأعم في ذلك الوقت، ولا يبعد أن يكون في ذلك الوقت من يتعاطى سائر ضروب السحر الذي ذكرنا. وكانوا يجرون في دعواهم الأخبار بالغيوب وتغيير صور الحيوان على منهاج سحرة بابل، وكذلك كهان العرب يشمل الجميع اسم الكفر لظهور هذه الدعاوى منهم وتجويزهم مضاهاة الأنبياء في معجزاتهم. وعلى أي وجه كان معنى السحر عند السلف فإنه لم يحك عن أحد إيجاب قتل الساحر من طريق الجناية على النفوس، بل إيجاب قتله باعتقاده عمل السحر من غير اعتبار منهم لجنايته على غيره، فأما ما يفعله المشعوذون وأصحاب الحركات والخفة بالأيدي، وما يفعله من يتعاطى ذلك بسقي الأدوية المبلدة للعقل أو السموم القاتلة، ومن يتعاطى ذلك بطريق السعي بالنمائم والوشاية والتضريب والإفساد، فإنهم إذا اعترفوا بأن ذلك حيل ومخاريق، حكم من يتعاطى مثلها من الناس لم يكن كافرا وينبغي أن يؤدب ويزجر عن ذلك.
والدليل على أن الساحر المذكور في الآية مستحق لاسم الكفر قوله تعالى:
(واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان) أي على عهد سليمان، روي ذلك عن المفسرين. وقوله (تتلوا) معناه تخبر وتقرأ.
ثم قوله تعالى (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) يدل على أن ما أخبرت به الشياطين وادعته من السحر على سليمان كان كفرا، فنفاه الله عن سليمان وحكم بكفر الشياطين الذين تعاطوه وعملوه، ثم عطف على ذلك قوله تعالى: (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) فأخبر عن الملكين أنهما يقولان لمن يعلمانه ذلك: لا تكفر بعمل هذا السحر واعتقاده!
فثبت أن ذلك كفر إذا عمل به واعتقده.
ثم قال: (ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق) يعني، والله أعلم:
من استبدل السحر بدين الله ماله في الآخرة من خلاق، يعني من نصيب. ثم قال:
(ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون)، فجعل ضد هذا الإيمان فعل السحر، لأنه جعل الإيمان في مقابلة