الآخر، ومن أسقط فرضها في أحدهما أسقطه في الآخر. فلما ثبت عندنا بظاهر الآية جواز النفل بغيرها وجب أن يكون كذلك حكم الفرض.
فإن قال قائل: فما الدلالة على جواز تركها بالآية؟ قيل له: لأن قوله: (فاقرؤوا ما تيسر من القرآن) يقتضي التخيير، وهو بمنزلة قوله: اقرأ ما شئت. ألا ترى أن من قال لرجل: بع عبدي هذا بما تيسر، أنه مخير له في بيعه له بما رأى. وإذا ثبت أن الآية تقتضي التخيير لم يجز لنا إسقاطه والاقتصار على شئ معين وهو فاتحة الكتاب، لأن فيه نسخ ما اقتضته الآية من التخيير. فإن قال قائل: هو بمنزلة قوله: (فما استيسر من الهدي) [البقرة: 196] ووجوب الاقتصار به على الإبل والبقر والغنم مع وقوع الاسم على غيرها من سائر ما يهدى ويتصدق به فلم يكن فيه نسخ الآية - قيل له: إن خياره باق في ذبحه أيها شاء من الأصناف الثلاثة، فلم يكن فيه رفع حكمها من التخيير ولا نسخه وإنما فيه التخصيص. ونظير ذلك ما لو ورد أثر في قراءة آية دون ما هو أقل منها لم يلزم منه نسخ الآية، لأن خياره باق في أن يقرأ أيما شاء من آي القرآن. فإن قال قائل: قوله:
(فاقرأوا ما تيسر من القرآن) يستعمل فيما عدا فاتحة الكتاب، فلا يكون فيه نسخ لها - قيل له: لا يجوز ذلك من وجوه: أحدها أنه جعل الأمر بالقراءة عبارة عن الصلاة فيها، فلا يجوز أن تكون عبادة إلا وهي من أركانها التي لا تصح إلا بها، الثاني أن ظاهره يقتضي التخيير في جميع ما يقرأ في الصلاة، فلا يجوز تخصيصه في بعض ما يقرأ فيها دون غيرها. الثالث أن قوله: (فاقرؤوا ما تيسر) أمر، وحقيقته ومقتضاه الواجب، فلا يجوز صرفه إلى الندب من القراءة دون الواجب منها.
ومما يدل على ما ذكرنا من جهة الأثر ما حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا مؤمل بن إسماعيل، حدثنا حماد عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن علي بن يحيى بن خلاد عن عمر، أن رجلا دخل المسجد فصلى، ثم جاء فسلم على النبي عليه السلام، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، وقال له: " ارجع فصل فإنك لم تصل " فرجع الرجل فصلى كما كان يصلي. ثم جاء إلى النبي عليه السلام، فرد عليه، ثم قال له:
" ارجع فصل فإنك لم تصل " حتى فعل ذلك ثلاث مرات فقال عليه السلام: " إنه لا تتم صلاة أحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء مواضعه، ثم يكبر ويحمد الله تعالى ويثني عليه، ويقرأ بما شاء من القرآن، ثم يقول: الله أكبر، ثم يركع حتى تطمئن مفاصله " وذكر الحديث. وحدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا أبو داود، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله، قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة، أن رجلا دخل المسجد فصلى، ثم جاء فسلم، وذكر نحوه ثم قال: " إذا قمت إلى الصلاة