وكيع عن جرير بن حازم عن الوليد بن يحيى أن جابر بن زيد قام يصلي ذات يوم فقرأ:
(مدهامتان) [الرحمن: 64] ثم ركع.
قال أبو بكر: وما روي عن عمر وعمران بن حصين في أنها لا تجزي إلا بفاتحة الكتاب وآيتين محمول على جواز التمام لا على نفي الأصل، إذ لا خلاف بين الفقهاء في جوازها بقراءة فاتحة الكتاب وحدها. والدليل على جوازها مع ترك الفاتحة، وإن كان مسيئا، قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر) [الاسراء: 78] ومعناه قراءة الفجر في صلاة الفجر، اتفاق المسلمين على أنه لا فرض عليه في القراءة وقت صلاة الفجر إلا في الصلاة، والأمر على الإيجاب حتى تقوم دلالة الندب، فاقتضى الظاهر جوازها بما قرأ فيها من شئ، إذ ليس فيه تخصيص لشئ منه دون غيره ويدل عليه أيضا قوله تعالى: (فاقرؤوا ما تيسر من القرآن) [المزمل: 20] والمراد به القراءة في الصلاة بدلالة قوله تعالى: (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل) [المزمل: 20] إلى قوله (فاقرؤوا ما تيسر من القرآن) [المزمل: 20] ولم تختلف الأمة إن ذلك في شأن الصلاة في الليل. وقوله تعالى: (فاقرؤوا ما تيسر من القرآن) عموم عندنا في صلاة الليل وغيرها من النوافل والفرائض لعموم اللفظ. ويدل على أن المراد به جميع الصلاة من فرض ونفل حديث أبي هريرة ورفاعة بن رافع في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي الصلاة حين لم يحسنها فقال له: " ثم اقرأ ما تيسر من القرآن ".
وأمره بذلك عندنا إنما صدر عن القرآن، لأنا متى وجدنا للنبي صلى الله عليه وسلم أمرا يواطئ حكما مذكورا في القرآن وجب أن يحكم بأنه إنما حكم بذلك عن القرآن، كقطعه السارق وجلده الزاني ونحوها. ثم لم يخصص نفلا من فرض فثبت أن مراد الآية عام في الجميع. فهذا الخبر يدل على جوازها بغير فاتحة الكتاب من وجهين: أحدهما دلالته على أن مراد الآية عام في جميع الصلوات، والثاني أنه مستقل بنفسه في جوازها بغيرها. وعلى أن نزول الآية في شأن صلاة الليل لو لم يعاضده الخبر لم يمنع لزوم حكمها في غيرها من الفرائض والنوافل من وجهين: أحدهما أنه إذا ثبت ذلك في صلاة الليل فسائر الصلوات مثلها، بدلالة أن الفرض والنفل لا يختلفان في حكم القراءة، وإن ما جاز في النفل جاز في الفرض مثله، كما لا يختلفان في الركوع والسجود وسائر أركان الصلاة. فإن قال قائل: هما مختلفان عندك لأن القراءة في الأخريين غير واجبة عندك في الفرض، وهي واجبة في النفل إذا صلاها - قيل له: هذا يدل على أن النفل آكد في حكم القراءة من الفرض، إذا جاز النفل مع ترك فاتحة الكتاب فالفرض أحرى أن يجوز. والوجه الآخر أن أحدا لم يفرق بينهما، ومن أوجب فرض قراءة فاتحة الكتاب في أحدهما أوجبها في