الثانية استفتح ب (الحمد لله رب العالمين) ولم يسكت. وهذا يدل على أنه لم يكن عنده أنها من فاتحة الكتاب، وإذا لم يكن منها لم يجهر بها لأن كل من لا يعدها آية منها لا يجهر بها. وأما حديث أم سلمة، فروى الليث عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة عن معلى أنه سأل أم سلمة عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنعتت قراءته مفسرة حرفا حرفا. ففي هذا الخبر أنها نعتت قراءة النبي عليه السلام، وليس فيه ذكر قراءتها في الصلاة ولا دلالة فيه على جهر ولا إخفاء، لأن أكثر ما فيه أنه قرأها، ونحن كذلك نقول أيضا، ولكنه لا يجهر بها. وجائز أن يكون النبي عليه السلام أخبرها بكيفية قراءته فأخبرت بذلك. ويحتمل أن تكون سمعته يقرأ غير جاهر بها، فسمعته لقربها منه، ويدل عليه أنها ذكرت أنه كان يصلي في بيتها، وهذه لم تكن صلاة فرض، لأنه عليه السلام كان لا يصلي الفرض منفردا بل كان يصليها في جماعة. وجائز عندنا للمنفرد والمتنفل أن يقرأ كيف شاء من جهر أو إخفاء.
وأما حديث جابر عن أبي الطفيل فإن جابرا ممن لا تثبت به حجة لأمور حكيت عنه تسقط روايته، منها أنه كان يقول بالرجعة على ما حكي، وكان يكذب في كثير مما يرويه، وقد كذبه قوم من أئمة السلف. وقد روى أبو وائل عن علي رضي الله عنه أنه كان لا يجهر بها، ولو كان الجهر ثابتا عنده لما خلفه إلى غيره. وعلى أنه لو تساوت الأخبار في الجهر والإخفاء عن النبي عليه السلام كان الإخفاء أولى من وجهين: أحدهما ظهور عمل السلف بالإخفاء دون الجهر، منهم أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وابن المغفل وأنس بن مالك، وقول إبراهيم: الجهر بها بدعة. إذ كان متى روي عن النبي عليه السلام خبران متضادان وظهر عمل السلف بأحدهما كان الذي ظهر عمل السلف به أولى بالإثبات. والوجه الآخر أن الجهر بها لو كان ثابتا ورد النقل به مستفيضا متواترا كوروده في سائر القراءة، فلما لم يرد النقل به من جهة التواتر علمنا أنه غير ثابت، إذ الحاجة إلى معرفة مسنون الجهر بها كهي إلى معرفة مسنون الجهر في سائر فاتحة الكتاب. فإن احتج بما حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، قال: حدثنا ربيع بن سليمان، قال:
حدثنا الشافعي، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد، قال: حدثني عبد الله بن عثمان بن حنتم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ولم يكبر إذا خفض وإذا رفع، فناداه المهاجرون حين سلم والأنصار: أي معاوية! سرقت الصلاة! أين بسم الله الرحمن الرحيم، وأين التكبير إذ خفضت وإذا رفعت؟ فصلى بهم صلاة أخرى فقال فيها ذلك الذي عابوا عليه. قال: فقد عرف المهاجرون والأنصار الجهر بها، قيل له: لو كان ذلك كما ذكرت لعرفه أبو بكر