وفيه بيان أن الرسالة إنما تظهر بالمعجزة، فلا معنى لاعتبار البشرية. وقيل: هو جواب عن قولهم (ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا) فكأنه قال إنهم اعتصموا بالله، وبما آتاهم من البينة والرحمة، فنالوا بذلك الرفعة والفضل، وأنتم قنعتم بالدنيا الدنية الفانية، فأنتم في الحقيقة الأراذل لا هم. وقيل: هو جواب عن قولهم: (وما نرى لكم علينا من فضل) فكأنه قال: لا تتبعوا المال والجاه، فإن الواجب اتباع الحجة والدلالة. ويجوز أن يكون جوابا عن جميع ذلك.
(وآتاني رحمة من عنده) رد عليهم بهذا جميع ما ادعوه. والرحمة والنعمة هي ههنا النبوة أي وأعطاني نبوة من عنده (فعميت عليكم) أي: خفيت عليكم لقلة تدبركم فيها. (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) أي: أتريدون مني أن أكرهكم على المعرفة، وألجئكم إليها، على كره منكم؟ هذا غير مقدور لي. والهاء كناية عن الرحمة، فيدخل فيها النبوة، والدين، وسائر النعم. وقيل: معناه أنلزمكم قبولها، فحذف المضاف. ويجوز أن يكون الهاء كناية عن البينة، ويكون المراد: إن علي أن أدلكم بالبينة، وليس علي أن أضطركم إلى معرفتها.
(ويا قوم لا أسئلكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون (29) ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون (30) ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدرى أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين (31).
اللغة: الطرد: الإبعاد على جهة الهوان. وتطارد الأقوال: حمل بعضها على بعض. والازدراء: الاحتقار افتعال من الزراية، يقال زريت عليه: إذا عتبه، وأزرت به: إذا قصرت به. قال الشاعر:
رأوه فازدروه، وهو خرق، وينفع أهله الرجل القبيح ولم يخشوا مقالته عليهم، وتحت الرغوة اللبن الصريح (1)