الله تأول الحديث وأخرجه عن ظاهره حتى يتفق مع مذهبه، فحمل قوله فيه:
" فليتحر " على الأخذ باليقين الذي هو الأقل! ولا يخفى على المنصف بعد هذا التأويل، بل بطلانه إذا أمعن النظر في الروايات التي ذكرتها للحديث مثل قوله:
" فلينظر الذي يرى أنه الصواب "، فإنه كالصريح في الأخذ بما يغلب على رأيه، ويؤيده قوله في حديث أبي سعيد: " فلم يدر كم صلى "، فإن مفهومه أن من تحرى الصواب بعد الشك حتى درى كم صلى - أنه ليس له أن يبني على الأقل، بل حكم هذه المسألة مسكوت عنه في هذا الحديث، وقد تولى بيانه حديث ابن مسعود، حيث أمر (ص) فيه بالأخذ بما يظن أنه أقرب إلى الصواب، سواء كان الأقل أو الأكثر، ثم يسجد بعد التسليم سجدتين.
وأما في حالة الحيرة وعدم الدراية، فإنه يبني على الأقل، ويسجد قبل التسليم، وفي هذا إشارة إلى اختلاف ما في الحديثين من الفقه، فتأمل.
وبعد، فإن هذه المسألة تحتاج إلى كثير من البسط والشرح والتحقيق، والمجال لا يتسع لذلك، ولعل ما ذكرته ههنا يكفي في بيان ما أردته من إثبات وجوب الأخذ بالظن الغالب إذا وجد، وهو خلاصة رسالة كنت ألفتها في هذه المسألة رددت فيها على النووي بتفصيل، وبينت فيها معنى الشك المذكور في حديث أبي سعيد، ومعنى التحري الوارد في حديث ابن مسعود، وقد أوردت فيها من الفوائد ما لا يكاد يوجد في كتاب، منها أن راوي حديث البناء على الأقل، أبو سعيد رضي الله عنه كان يفتى بالأخذ بالتحري، ويرويه عن النبي (ص)، وجعلت ذلك من الأدلة الكثيرة على صواب ما ذهب إليه الحنفية، ولكنه لم يفتني أن أنبه على أن ما ذهبوا إليه من إبطال صلاة من عرض له الشك لأول مرة باطل، وأن الصواب دخوله في عموم الحكم، وغيرها من الفوائد التي وفقني الله تعالى إليها، وله الحمد والمنة.