ولا يخفى أن سؤال محمد بن مسلم وإن كان مجملا لكنه يعلم من جواب الإمام (عليه السلام) أن نظره كان إلى مسافة التقصير. وقوله: " قلت: بريد؟ " ليس استفهاما حقيقيا بل استعجابي؛ ولا محالة كان مسبوق الذهن بما ذكره الناس في تحديد المسافة من المراحل والمرحلتين ونحوهما، أو بما صدر عن الأئمة (عليهم السلام) من التحديد بالثمانية البريدين، وانسبق إلى ذهنه من قوله (عليه السلام): " في بريد " أنه يريد كون البريد بنفسه موجبا للقصر، كما هو الظاهر من اللفظ، فاستقل هذه المسافة وقال على سبيل الاستعجاب: " بريد!؟ " فأجابه الإمام (عليه السلام) بما يزيل استعجابه كما يأتي بيانه.
وتقريب الاستدلال بالحديث لاعتبار كون الرجوع ليومه أن الظاهر من جواب الإمام (عليه السلام) هو أن البريد إنما يوجب القصر لكونه بضم الإياب إليه شاغلا ليوم المسافر، فيعلم بذلك أن تمام الملاك في المسافة التلفيقية هو الشاغلية لليوم. وإن شئت قلت: إن ما ذكره (عليه السلام) صغرى لكبرى مطوية من سنخها، فكأنه قال: إذا ذهب بريدا ورجع بريدا شغل السفر يومه، وكل من شغل السفر يومه يقصر. فيعلم بذلك أن موضوع القصر في المقام هو شغل السفر ليوم المسافر، وهو المطلوب.
المناقشة في الاستدلال بهذه الطائفة من الأخبار ونوقش في هذا الاستدلال بوجهين:
الأول أن جواب الإمام (عليه السلام) كما عرفت كان لرفع استبعاد محمد بن مسلم وإزالة تعجبه، ورفع الاستبعاد إنما يتحقق بإرجاع السائل إلى ما عهده وارتكز في ذهنه، المركوز في ذهنه بسبب ما صدر عنهم سابقا هو أن أدنى ما يقصر فيه الصلاة بريدان، المعبر عنهما في بعض الروايات بمسيرة اليوم، ولذلك استقل البريد لما سمعه.