فقتلوا منهم بشرا كثيرا وقتل وزير من وزراء كسرى يقال له البحير جان (1) فيمن قتل، وهزمهم المسلمون حتى بلغوا بهم إلى موضع عسكرهم واشتبكت الحرب هنالك، فلم يزالوا كذلك يقتتلون إلى أن جاء الليل فحجز بين الفريقين، فرجع المسلمون إلى موضع عسكرهم، فباتوا ليلتهم تلك ولهم أنين شديد من كثرة ما بهم من الجراحات، توقد لهم النيران ويعصبون بالزيت والحراق (2)، وهم في ذلك يدعون الله عز وجل ويتضرعون إليه ويسألونه النصر على أعدائهم.
فلما أصبحوا قال فقال النعمان بن مقرن: أيها الناس! استمعوا كلامي واحفظوا وصيتي، فقالوا: قل أيها الأمير! نسمع كلامك ونحفظ وصيتك، فقال:
إن الفرس قد أخطروا لكم أخطارا وأخطرتم لهم أخطارا، فإن أنتم هزمتموهم ترجعون إلى نعمة وسرور، وإن هزموكم فلا بصرة ولا كوفة ولا مدينة، واعلموا بأنكم قد أصبحتم بابا بين الاسلام والشرك، وإن كسر هذا الباب دخل على الاسلام منه بلاء، فالله الله عباد الله الاسلام أن تخذلوه فإنكم عباد الله الذين توحدونه وتعبدونه، فإنما تقاتلون خلقا من خلقه يأكلون رزقه ويعبدون غيره، يعبدون الشمس والقمر والنار، وينكحون الأمهات، والأخوات والبنات والخالات والعمات، فكل فاحشة يعملون بها وكل حرمة ينتهكونها، وقد ساقكم الله عز وجل إليهم وساقهم إليكم هوانا لهم وكرامة لكم، فتقربوا إلى الله عز وجل بجهاد العادلين بالله وارغبوا في عظيم ثواب الله، ألا، فإني هاز لكم رايتي هذه، فإذا رأيتموني قد هززتها فشدوا عمائمكم على بطونكم وشمروا عن سواعدكم، فإذا هززتها الثانية لكم فليضم كل رجل منكم ثيابه وليتعاهد عنان فرسه ولينظر إلى حزامه وثفره ولببه وليتهيأ للحملة، فإذا هززتها لكم الثالثة فليضع كل رجل منكم رمحه بين أذني فرسه ولينظر إلى وجوه مقاتلة، وإني مكبر بعد ذلك فكبروا وشدوا على القوم شدة واحدة وقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله.
قال: فناداه عمرو بن معديكرب: أيها الأمير! إنا قد سمعنا كلامك وحفظنا وصيتك، فإن أصبت - وأعوذ بالله أن يكون ذلك - فمن يكون على الناس أميرا بعدك؟ فقال: إن أصبت - وأنا أرجو أن يرزق الله عز وجل ابن مقرن الشهادة -