ألفاظا لا معنى لها لان... ما لا معنى له فلا مطلوب فيه. والفلسفة انما تعتمد على ما كان فيه مطلوب. فليس من شأن الفلسفة استعمال ما لا مطلوب فيه.... وكذلك يقوم منهج الكندي على ذكر المقدمات، ثم يعمل على اثباتها على منهج رياضي استدلالي.... قطعا لمكابرة من ينكر القضايا البينة بنفسها، وسد الباب اللجاج من جانب أهل العناد... ومن يطلع على رسائله يجد ان الطريقة الاستنباطية تغلب عليها،... وان منهجه منطقي رياضي يدهش الإنسان من اتقانه في ذلك العصر البعيد... للميلاد مما جعله يقول:... ان الكندي من الاثني عشر عبقريا الذين هم من الطراز الأول في الذكاء....
والكندي مخلص للحقيقة يقدس الحق، ويرى في معرفة الحق كمال الإنسان وتمامه، ويتجلى ذلك في رسالة الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى. فقد جاء في هذه الرسالة:... ان أعلى الصناعات الإنسانية وأشرفها مرتبة صناعة الفلسفة. ولما ذا...؟ لان حدها علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان، ولان غرض الفيلسوف في عمله، إصابة الحق، وفي عمله، العمل بالحق....
ويعرف الكندي للحق قدره، ويقول في هذا الشأن:... وينبغي ان لا نستحي من الحق واقتناء الحق من أين اتى، وان اتى من الأجناس القاصية عنا والأمم المباينة لنا، فإنه لا شئ أولي بطالب الحق من الحق... وليس ينبغي بخس الحق ولا تصغير قائله والآتي به... ولا أحد بخس بالحق بل كان يشرفه الحق....
وفي رأي الكندي ان الحياة قصيرة وانها لا تكفي لمعرفة الحقيقة الكاملة. فمهما طالت حياة الفرد وعكف على البحث وحصر نفسه وجهوده في الدرس والتفكير فلن يصل إلى الحقيقة الكاملة بل هو في بحثه ودراسته وتفكيره انما يعمل لها ويسعى للوصول إليها، وحسبه في هذا شرفا وسعادة.
ويرى الكندي ان معرفة الحق ثمرة لتضامن الأجيال الإنسانية، فكل جيل يضيف إلى التراث الإنساني ثمار أفكاره، ويمهد السبيل لمن يجئ بعده، ويدعو إلى مواصلة البحث عن الحق والمثابرة في طلبه، وشكر من يشغل نفسه وفكره في ذلك. وهو يعتبر طالبي الحق شركاء وان بينهم نسبا ورابطة قوية هي رابطة البحث عن الحق والاهتمام به. وقد دفعه اهتمامه بالحق وطالبيه إلى لاشعور بمسؤوليته، وان عليه ان يساهم في بناء الحقيقة ويدعو إلى الاخلاص لها، ويحدب على طالبها والتفاني في اسعافه. وبذلك يدفع المجهود الفلسفي إلى الامام.
يقول الكندي في هذا الشأن في كتابه إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى ما يلي:...
ومن أوجب الحق الا نذم من كان أحد أسباب منافعنا الصغار. فكيف بالذين هم من أكبر أسباب منافعنا العظام الحقيقية الجدية، فإنهم وان قصروا عن بعض الحق، فقد كانوا لنا انسابا وشركاء فيما أفادونا من ثمار فكرهم التي صارت لنا سبلا وآلات مؤدية إلى علم كثير.
فينبغي ان يعظم شكرنا للآتين بيسير الحق، فضلا عمن اتى بكثير من الحق، إذ أشركونا في ثمار فكرهم وسهلوا لنا المطالب الخفية الحقية، بما أفادونا من المقدمات المسهلة لنا سبل الحق، فإنهم لو لم يكونوا، لم تجتمع لنا مع شدة البحث في مددنا كلها هذه الأوائل الحقية، التي بها تخرجنا إلى الأواخر من مطلوباتنا الخفية. فان ذلك انما اجتمع في الاعصار السالفة المتقادمة عصرا بعد عصر إلى زماننا هذا، مع شدة البحث ولزوم الدأب وايثار التعب في ذلك....
والكندي أدرك بحدة نظره وثاقب تفكيره بان الثبات والدوام في هذا العالم غير موجودين وان قانون التغير يسيطر على عوامل الكون، ومن يرفض هذا القانون فهو في واقع الامر يرفض الحياة نفسها ويدلل على فكر سقيم وعقلية عقيمة.
ولم يقف الكندي عند هذه الحدود بل نفذ عقله إلى الخروج بالقول ان مقتنيات الحياة مشتركة بين جميع الناس وانه لا يصح للانسان الاستئثار بها أو ان يحسد غيره عليها....
والكندي في حياته كان منصرفا إلى جد الحياة، عاكفا على الحكمة ينظر فيها التماسا لكمال نفسه.
وفوق ذلك فالكندي ذو روح علمي صحيح، ابعد عنه الغرور، وجعله يرى الإنسان العاقل مهما يبلغ في العلم، فهو لا يزال مقصرا، وعليه ان يبقى عاملا على مواصلة البحث والتحصيل. وقد قال في هذا الشأن:...
العاقل من يظن أنه فوق عمله، فهو ابدا بتواضع لتلك الزيادة، والجاهل يظن أنه تناهى فتمقته النفوس لذلك....
يرى الكندي ان على الإنسان ان يستعمل عقله في تدبير نفسه وسياستها والاهتمام بمطالبتها الحقيقية دون ان يعطي هذه الحياة أكثر مما تستحق. وانه بالعقل والفضيلة والحكمة يمكن للانسان ان يخلص من الأحزان ويحرر نفسه من القلق.
وفي رأي الكندي ان مفهوم الفلسفة يجب ان يقوم على المعرفة والسيرة العلمية. فلا يكفي ان يفهم الإنسان الفلسفة من حيث هي معرفة فقط بل يجب ان تقترن هذه المعرفة بسيرة عملية، فيعرف الإنسان نفسه ويخلصها من ادران الأنانية والطمع والحسد، ويجعل العقل رائده وقائده وحكما في الفصل بين الحق والباطل. وبذلك يؤدي رسالة الحياة على أتم ما يكون الأداء ويمهد للحياة الخالدة التي يرنو إليها الحكماء والفلاسفة في كل زمان ومكان.
وقال محمد كاظم الطريحي:
عقيدته:
اختلف المؤرخون في ديانته، وعقيدته اختلافا كبيرا، فمنهم من رفعه إلى مصاف علماء الدين، ومنهم من رماه بالكفر والالحاد، ومنهم من قال إنه كان يهوديا ثم أسلم، والآخر قال: كان نصرانيا، وكل